الشحاذ العظيم الذي أقصده بعينه وأنفه المتضخم ولسانه، هو الشاعر الشهير جدا أبو الطيب المتنبي، وأما لماذا المتنبي، ولماذا مفردة الشحاذ، فذاك يحتاج إلى بعض التفصيل والترتيل.
لا ينكر شاعرية أبي الطيب المتنبي إلا جاهل أو مكابر أو كاره لشخص المتنبي، أو كاره لسيرة المتنبي السلوكية الشخصية، في حياته العامة، وأما شعره الغزير المطير الأثير، فلا أظن اثنان يختلفان على براعته الشعرية، وعلى ضخامة منتجه الشعري الذي ما زال حيّا، يعيش بيننا، في كتب المدارس الرسمية، وفي أرفف المكتبات العامة، وأرفف الذاكرة.
صحيح أن المديح غرض شعري معروف من قبل أن يأتي المتنبي برحاله وظِلاله، وقد سبقه إليه شعراء كثر، سبقوه إلى بلاط المديح السلطاني، وإلى صُرر الدنانير المدائحية، غير أن المتنبي اشتهر بالمديح، لأن مدائحه كانت من فئة المدائح الماسيّة، وكل من مدحه المتنبي دخل التاريخ، ودخل الذاكرة الجمعية بكامل قدميه.
لا فرق في الوهلة الأولى، بين المتنبي وسواه من الشعراء المادحين، لا فرق في الشكل العام، فكلهم شحاذون في النهاية، وكلهم يمدحون للحصول على مقابل مادي، وكلهم يمدحون للحصول على مقابل معنوي متمثل في الجاه ومصاحبة الممدوح، وكلهم يكتبون القصائد، وكلهم يعرفون في ذواتهم أنهم سيحتاجون إلى نسبة من الكذب فيما يقولون، غير أن عظمة المتنبي أنه يحيل الممدوح إلى تحفة جمالية، ويحيل الكذب إلى تمثال جمالي مرصّع بالذهب، بل إنه يحيل بعض الثوابت إلى مادة هلاميّة خضراء فاتنة، بعد أن كانت مادة حمراء الصلصال ومحذورة وممنوعة، من خلال تقديس الممدوح تقديسا يصل إلى درجة التصنيم، كقوله في مدح سيف الدولة:
تظل ملوك الأرض خاشعة له
تفارقه هلكى وتلقاه سُجّدا
الذي جعلني ويجعلني أتذكّر هذا الشحّاذ العظيم دائما، هو سيل الشحاذين الذي نراه يوميا في بعض منابر الإعلام.