أدبيات السجون السياسية دخلت إلى الذاكرة الشعبية من خلال الأفلام المصرية وبالذات "اللومان" أو سجون ليمان طرة، ثم من خلال الإعلام المصري الرسمي أو المعارضة وخاصة الإخوان المسلمين في أدبياتهم، ثم دخلت سجون سيئة السمعة مثل العقرب ضمن سجون طرة في مصر، وسجن رومية في لبنان، وسجن الكاظمية في العراق الذي يعد أسوأ سمعة من أبي غريب وأقل شهرة، وخاصة في عهد ما بعد صدام حسين، وبرج الرومي في تونس، والسجن الأكثر فظاعة في عهد حافظ وبشار الأسد وهو سجن تدمر السوري.

طافت بذهني وأنا في طريقي إلى سجن الحائر بالرياض التعليقات التي نطلقها أو نسمعها عند ذكر هذه السجون بدءاً من المصمك وعليشة والرويس وانتهاءً بالحائر وذهبان والطرفية وشعار، وبعضها أصبح تاريخاً ولم يعد قائماً، وتذكرت عبارة فيودور دستوفيسكي "إن معيار تحضر أي أمة هو طريقة تعاملها مع سجنائها"، وعلى الرغم من اهتمام وحرص المسؤولين عن إدارة السجن على الزيارة والترتيب السريع الذي لم يأخذ سوى 18 ساعة عبر مكالمات بدأتها من الدمام يوم الاثنين الساعة السادسة مساءً إلى موعد الزيارة يوم الثلاثاء الثانية ظهراً، أقول على الرغم من هذا الاهتمام والسرعة كنت أتساءل: هل ستضع إدارة السجن برنامجاً محدداً أشبه بالجولات السياحية لأرى ما يريدون أن أراه وخاصة خدمات الخمسة نجوم، أم يسمحون لي بمقابلة من أريد وأزور المعتقلات والزنازين الموجودة تحت الأرض التي أسمع عنها وأقابل من أشاء من الموقوفين؟ وهل تشترط إدارة السجن الاطلاع على ما أكتبه قبل النشر كما تفعل بعض العقليات العقيمة في الإدارات والوزارات المدنية فما بالك بالعسكرية؟ وكنت أقول لأبي تميم: إن جرت الأمور كما كنت أتساءل فسنكتفي بعبارة كثر الله خيركم وسلام نظر، لكن ما حصل بعد ذلك أن الأبواب فتحت، وقابلت من أريد، وتحدثت معهم دون أي تعليمات أو اشتراطات مسبقة، إلا الاستئذان من الموقوفين وهذا حق لهم واحترام لخصوصيتهم ومنهم من رفض اللقاء وهذا حقه أيضاً.

وتحدثت مع من قابلت وقوفاً وجلوساً، فرادى ومجتمعين ولم يتدخل أحد من إدارة السجن أو يوجه الحديث، ولم يطلب أحد الاطلاع على ما أكتبه سوى أمر واحد وهو عدم ذكر الأسماء وأنا أتفهم ذلك وعليه حريص، وسألت عن الانفرادي ومكان التحقيق والغرف تحت الأرض فقالوا: كل شيء أمامك ولا شيء تحت الأرض، وعندما رأى في عيني عدم التصديق عرض أن أجلس أسبوعاً وأسأل من أشاء من الموقوفين دون أي مرافق وأتحقق من ذلك بنفسي، وسألت القدامى والجدد ولم يؤكد أحد وجودها، ولم أحتج إلى البقاء أسبوعاً.


أكثر من 6 ساعات قضيتها في الحائر ما بين أسئلة ترددت مسبقاً في المنتديات وحسابات عديدة في مواقع التواصل الاجتماعي، ولقاءات مع عدد من الموقوفين، وكان أول ما لاحظت وجود كاميرات في كل مكان ومع أنها أصبحت أمراً معتاداً في الفنادق والأماكن العامة في كل دولة إلا أن وجود نحو 7 آلاف كاميرا في السجن تركت في ذهني سؤالاً معلقاً عرفت إجابته فيما بعد، سألت المسؤول عن حقوق الإنسان في السجون، وكذلك مدير الحائر عن حقوق النزلاء وحمايتهم من الانتهاك أثناء التحقيق، وانتزاع الاعترافات بالتعذيب وسوء المعاملة، ومن الطبيعي أن بعض الموقوفين من القتلة ويرون الآخرين كفاراً وأنهم في دار حرب، ولذلك يستفزون الأفراد والمحققين ويهاجمونهم بأقسى الألفاظ، ولهم ردات فعل قد تمثل عنفاً أو انتهاكاً، وكانت الإجابة أنني شاهدت بعيني كاميرات التسجيل في غرفة التحقيق والمواد التي تحفظ نحو 45 يوماً كي تكون مرجعاً أمام القاضي إن ادعى المتهم أن اعترافاته أخذت بالقوة، وسألت عن محامين لبعض الإرهابيين يقولون إنهم منعوا من مقابلة موكليهم أو عوملوا معاملة سيئة أو تعرضوا للضرب، وجاءت التسجيلات لتوثق نوعية المعاملة منذ دخولهم إلى خروجهم.

وفي الحائر جاءت أسرة غاضبة تقول: إن إدارة السجن منعتهم من زيارة ابنهم/ والأم تصيح وهي متيقنة أن عدم السماح لها برؤية ابنها لأنه تعرض للتعذيب وربما التشويه أو ذبحوه، وتؤكد التسجيلات أن الموقوف يرفض رؤية أمه لأنه يكفرها ويكفر أهله، ولأن الأم لا يمكن أن تقتنع بذلك بما هي أم، قامت إدارة السجن بنقلها مصونة مكرمة وأدخلتها إلى ابنها الرافض رؤيتها رغما عنه وتأكدت بنفسها أن المشكلة من ابنها، كما كشفت الكاميرات أن بعض المحامين رغبة منهم في افتعال مشكلة يأتون دون موعد وبعنجهية واستفزاز ومع ذلك يمكنون من الدخول ومقابلة موكليهم وهو أمر غير مقبول حتى في عيادات الأطباء، وهناك محاضر وجداول ومكاتب تنسيق في المحاكم.

والكاميرات تحمي النزلاء من بعضهم البعض، فالخلافات في ساحات القتال تنتقل إلى أجنحة السجن ما بين أتباع القاعدة وداعش والنصرة، وعراك بالأيدي ترصده الكاميرات، ويقوم الأفراد بحمايتهم من بعضهم البعض، أما في حالة وقوع انتهاك من أحد الأفراد فهناك تحقيق وإجراءات عقابية للمنتهك، ودورات للجميع في كيفية التعامل واحتواء الاستفزاز، وفي حال وجود أي شكوى فهناك لجنة من الداخلية وهيئة التحقيق والادعاء العام وهيئة حقوق الإنسان وجمعية حقوق الإنسان لمراجعتها والتحقق منها.

ووجدت من صور الاستفزاز البصق ورمي الأغراض والشتم والهجوم الجسدي، وأهونها عدم رد السلام والتكفير.


سألت القائمين على السجن عن المبالغة في تفتيش الأسر قبل الزيارة، وأن المسألة لا تحتمل كل هذا، وعلينا ألا نغلب الأمني على حساب الإنساني، خاصة بالنسبة للأسر المفجوعة في ابنها الإرهابي، ووجدت أن البعض يهربون الممنوعات في أماكن حساسة مثل الأمواس والسكين الصغيرة والمقصات، وحتى الأوراق لبعض منظري الإرهاب تهرب في ساعات الزيارة وتكتب لنجدها في اليوم التالي على مواقع التواصل، ومع أن 7 آلاف كاميرا موزعة في السجن إلا أن هناك 3 أماكن لا توجد فيها أبداً هي أماكن الخلوة والزيارات والبيت العائلي.

وسألت عن تأخير محاكمة بعض المتهمين أو عن بقائهم في السجن بعد انتهاء محكومياتهم، وعلمت أن السبب يعود إلى عدة أطراف بسبب أن القضية الإرهابية كبيرة ومتشعبة ومرتبطة بشبكة، فتأخير المحاكمة لتتبع أطراف الخلايا، وبعض العناصر متورطون هاربون وبعضهم قتلى في مناطق الصراع أو مجهول مصيرهم، ومن جهة أخرى فإن بعض المحامين المتعاطفين مع المتهمين يعمدون إلى التأخير، وهناك عدد من الموقوفين يصرون على محام واحد معروف (ع) وهو يحرص دائماً على الغياب وعدم الحضور ويؤجل كثيراً، وبعض المحكومين تنتهي فترة محكوميته المنصوص عليها شرعاً ولكنه ما زال على فكره الإرهابي، ويصرح بأنه سوف يقتل أشخاصاً يعلن أسماءهم في قائمة، وبعضهم على الرغم من العقوبة والمناصحة مستمر في نهجه فتقوم اللجنة بكتابة توصياتها وتعاد محاكمته وفق الإجراءات العدلية، أما حقوق هؤلاء فهناك لجنة شكلت بأمر سام من عدة جهات تنظر في أمرهم، وفي جميع الأحوال يتم تعويضهم مادياً عن كل يوم تأخير في السجن.


مناطق الصراع تُستغل للتجييش

في سجن الحائر نحو 1500 سجين منهم 12 امرأة ضمن 5 آلاف هم إجمالي الموقوفين في سجون المباحث الخمسة في الرياض والدمام وجدة والقصيم وأبها، واللافت في الأمر أن عدد النزلاء قبل اشتعال الصراع في سورية كان مجموعهم نحو 1800 موقوف منهم نحو 600 في الحائر، وزيادة العدد بهذا الشكل المخيف يعني أن مناطق الصراع واستغلالها في تجييش الناس السبب الأول في ازدياد عدد الموقوفين في المملكة.