كنت دائما وأبدا أؤمن بأن منح الثقة للفرد يصنع منه شخصا واعيا بتصرفاته، وعلى قدر كبير من المسؤولية، واثقا بنفسه وبما يفعل، والتضييق عليه والمراقبة الشديدة تزيده تمردا وعصيانا وخروجا عن القانون، خاصة في الفئات العمرية الحيوية الشابة.

خلال الأسبوع الماضي انتشر خبر مثير عن جامعة سعودية "تضبط" مجموعة من الطالبات بحوزتهن صبغات للشعر بأنواع مختلفة، وتحولهن إلى العمادة لمعاقبتهن، وإصدار قرارات حاسمة لتأديب المخالفات في اللباس وإلزامهن بزيّ موحد.

من قرأ هذا الخبر -بصياغته وحيثياته التجريمية وفق تكييف الجامعة القانوني له- يمكنه إعادة صياغته بما يفهم من سياقه بأن هناك جامعة سعودية تقصي وتجرم أحد أهم الاهتمامات وأبرز المهارات الحرفية للشابات في وقتنا الحالي، وتصدر قرارات عقابية تعود إلى القرن التاسع عشر.

وما يزيد الأمر سوءا، هو أن هؤلاء الفتيات كُن يمارسن حرفة ومهارة نادرة القدرة، ومجالها الآن هو الأوسع انتشارا في الحرف اليدوية ذات المكسب الوفير، في ظل ما تعيشه خريجات الجامعات السعودية من قحط في التوظيف، وتكدسهن حول الوظائف التعليمية المعلنة القليلة جدا أمام الأعداد الهائلة للمتقدمات إليها، وهي مهنة احتكرها في أسواقنا عدد من الجنسيات تنفق فيها أموالا هائلة كل يوم وكل أسبوع، وهي صناعة التجميل.

أعتقد أنه كان من المفترض دعم مثل هذه المواهب، وتنمية هذه القدرات وكذلك وضع ورش عمل حول تعلمها والتدريب عليها، خاصة أننا بحاجة إلى سعودة هذه الوظائف والاستعانة بالأيدي العاملة السعودية للحد من استقدام  العمالة الأجنبية، وفتح الآفاق لفرص عمل جديدة للشابات المبدعات، ودخولهن مجالات وأعمال مربحة أفضل من انتظار الوظيفة شبه المستحيلة.

ثم إنه لا يمكن حظري من الزراعة لأن جاري لا يملك حوشا، سنّة الله في هذا الكون هي الاختلاف والتباين، والذي عليه نحن كي نتوافق ونترابط ونتكامل.

تمنيت لو كان الاهتمام بما يعود بالنفع على الطالبات، من تشجيع على القدرات والحرف اليدوية المهارية المختلفة، والخروج من النظرة الضيقة التي ترى في كريم الأساس مخالفة، وفي قلم الحواجب كارثة، وفي تحديد العين فسوقا، وفي أحمر الشفاه جريمة لا تغتفر.

ولو فتشنا في حقائب الأستاذات والموظفات اللائي جرّمن الطالبات لوجدنا فرعا لمستحضرات التجميل، ومن أغلى الماركات التي لا يطيق ثمنها كثير من الطالبات، وصحيح أن لقاعات الدرس رصانة لكن حمل بعض مما لا تستغني عنه النساء ليس جريمة، وهناك أكثر من وسيلة اجتماعية وتربوية حضارية تعامل بها الطالبات في الجامعات وليس في معسكرات المارينز.

ومثل هذا القول يقال عن الجوالات في المدارس التي ما زال البعض يتعامل معها بعقلية العقد الماضي نفسها، عندما قامت حملات في الشوارع لضبط جوالات الكاميرا من الشباب ومصادرتها، وأورث ذلك حقدا وسخطا من الشباب وفسادا من بعض المصادرين، والآن نجد حتى الطفل الصغير يملك جوال كاميرا يبرع في استخدامها، وصار جوال أبو كشاف مثار تندر.

قيام هذه الجامعة وغيرها بتوحيد الزي الرسمي لطالباتها، وفرض اللباس عليهن وتقنينه شيء جميل، ولكن التحجر عند زي موحد يذكرنا بالأخوات الشيوعيات العاملات في المصانع والمزارع في حقبة الستينات، وحتى هذه الدول بدأت بالتخلي عنها باستثناء كوريا الشمالية، والتشدد في هذا الأمر مع طالبات في التعليم العالي، والتضييق على قائدات وأستاذات المستقبل بحجة أن في هذا توفير للأهالي، فيه نوع من استغفال الناس والتذاكي عليهم، والاحتيال على الرأي والذوق العام، وكأن هذا الاختلاف الطبقي فقط في لباس الجامعات.

وكان الأولى أن تكون هناك قواعد عامة في اللبس، من حيث الحشمة وعدم المبالغة أو التجاوز وفق الأعراف العامة التي لايختلف عليها اثنان، ثم تترك بعد ذلك الحرية للجميع في اختيار ما يرون وفق أذواقهن وإمكاناتهن، وحتى مزاجهن النفسي في ذلك اليوم.

مثل هذه القرارات والكبت على الطالبات الشابات المتعطشات للحياة، والتضييق عليهن ينتج لنا جيلا معقدا خاليا من الإبداع، ناقما على المجتمع والطبقية.

والمتعارف عليه، أن الجامعة مهمتها رفع مستوى الوعي والرقي بين عناصرها، ومحاولة استغلال طاقات الشباب، وحتى جموحهم في برامج طليعية ورائدة ومفيدة للطلاب والطالبات وللعالم أجمع، وتخيلوا مؤسس فيسبوك مارك زوكربرج، أو جاك دورسي مؤسس تويتر، أو ستيف جوبز صاحب ثورة الهواتف الرقمية الذكية، تم ضبطهم مع جوالاتهم في الجامعة وصودرت وكتبوا تعهدات وخصمت منهم درجات، أو "زهاء حديد" المصممة العراقية العالمية ضبطت في حقيبتها قلم ماسكرا لتشكل لها لجنة للتحقيق معها، وتكتب تعهدا مع فصل 3 أيام وإحضار ولي أمرها!

أعتقد أن على الجامعات أن تعيد هيكلة نفسها سريعا، لتعرف كيف تتعامل مع جيل الألفية، وأن تحقق رؤية السعودية 2030 ليكون بعضها ضمن أفضل 200 جامعة، بدلا من أن تخوض في قضايا القاع التي لن تبني مجدا!.