عندما نقول ما الفرق بين رجل السياسة ورجل الدين؟ يواجهنا إشكال مع الخطاب الإسلامي الذي يتقمص الدورين، فهو من جهة ينفي أن يوجد رجل دين في الإسلام، ويؤكد أن الإسلام جاء ضد الكهنوت والرهبانية التي وقع فيها أتباع الديانات السابقة، ومن جهة أخرى يريد أن يمسك بالوجدان الديني للناس ويستثمره في المكاسب السياسية على أرض الواقع التي يسعى لها أي شخص بأي ديانة سواء كان مسلما أو مسيحيا.

عندما يحاول الإسلاميون طرح مشروع سياسي، فإنهم ملتزمون بمعطيات القرن الحادي والعشرين، ومن المستحيل أن يكونوا بصرامة (دولة طالبان) التي رفضت الاعتراف بمقررات الأمم المتحدة كي تكون عضواً فيها، عدا أن نرى (دولة الإسلام في العراق والشام) تتحمس للاعتراف الدولي.

رجل الدين في الإسلام هو المسلم مجرداً دون الحاجة إلى لبس معين أو شكل معين للتمييز بين قساوسة الكنيسة والناس العاديين كما في المسيحية مثلاً، وعلى هذا فكل مسلم (متدين بالمعنى الروحي) ولكنه ليس (رجل دين بالمعنى الفيزيقي)، ولهذا كان الدين الإسلامي هو النموذج الحقيقي لإمكانية البقاء في كل مكان على هذه الأرض، فلا يوجد ركن من أركان الإسلام يوجب على المسلم الصيني أن يرفع البندقية في وجه دولته، ولا يوجد في ركن من أركان الإسلام ما يوجب على المسلم الفرنسي أن يرفع البندقية في وجه دولته، أي أن أركان الإسلام كما هي في حالتها البكر مسألة ضمير يستطيعها كل فرد في العالم المتحضر، وما عدا ذلك فاستحقاقات مواطنة متأخرة تفرض نفسها على الواقع ليستثمر الرجل السياسديني حتى لون البشرة عدا أن يستثمر التفاصيل العقائدية للطائفة والمذهب ليصنع صراعات دموية تساعده في الهروب للأمام عن قضايا شعبه الملحة والضرورية في استحقاقات المواطنة (السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية).

رجل السياسة في كل الأديان السماوية وغير السماوية هو كل ملتزم بنهضة أمته على الصعيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وما عدا ذلك فمراهقة سياسية تبدأ برجل دين ديدنه تجييش الشبيبة ضد الدولة عبر تحريم كل مظهر من مظاهر الحضارة الحديثة، لتهدأ بعد ذلك مراهقته تلك ثم يستغفر منها ويبدأ في الانغماس الكلي في كل مظاهر الحضارة الحديثة ومباهجها، والأتباع القدامى في السجون التي تحولت إلى مراكز رعاية نفسية واجتماعية لإعادة التأهيل.

مهمة الإنتلجنسيا كشف مفارقات رجل الدين ورجل السياسة، فالدين قضية ضمير، والسياسة قضية واقع، وقضايا الضمير قضايا فردية شخصية مهما حاولنا إعطاءها صفة العمومية، ونظرة واحدة للصفوف المرصوصة في الصلاة تعطيك الوجه العميق لمعنى الفردانية الشخصية في الدين عندما ترى المسلم الماتريدي يقف بجوار المسلم السلفي بجوار المسلم الصوفي بجوار المسلم المعتزلي صفاً واحداً، يتجهون إلى قبلة واحدة، وتفاصيل ضميرهم الديني (عقيدتهم) يمكن إشعالها بفتيل السياسة عبر اقتحام الوجدان الديني للأفراد وتحويله إلى قضايا عامة، رغبة في الهيمنة والتلاعب بالوجدان الخاص للفرد، عبر تحويله إلى وجدان جمعي شمولي مليء بالمنافقين أكثر من امتلائه بالمخلصين، والنتيجة حمام دم في مسجد واحد لمسلم يحمل عقيدة تنفي الإسلام عمن سواه من المسلمين، ولهذا كان الحج الأكبر في اجتماع أكثر من مليون مسلم في صعيد واحد على اختلاف طوائفهم ولغاتهم أكبر شاهد يؤكد ضرورة (فصل الدين عن السياسة)، وإلا فكيف لمذهب قد يكفر المذاهب الأخرى ويرى أن فيها (من هو أشد كفراً من اليهود والنصارى) أن يسمح (لغير المسلمين في نظره) من دخول الحرمين طائفين وعاكفين لأداء فريضة الحج!!؟!.

رجل السياسة الحديث في الدولة الحديثة يرفع عن الناس الشعور بضرورة التترس وراء المذهب أو القبيلة أو الطائفة، ويجعلهم يشعرون بعزتهم وكرامتهم مجتمعين في وطن واحد تحت لقب رفيع اسمه (المواطن)، تلك الكلمة التي يتساهل الكثير في فهم معناها، رغم ما في هذه الكلمة من سمو عبر إذابة كل الفوارق الخاصة بما قبل الدولة (قبيلة، طائفة، مذهب، لون، عرق)، وما زال بعض الشعوب يرسف في لعبة القرون الوسطى عبر (نظرية الحق الإلهي)، ليتقاسم السلطة فيها من يرتدي ثوب (رجل السياسة) ليرتدي الآخر ثوب (رجل الدين)، مصرين على رقصة الفالس الثنائية (خطوتان للأمام ثم خطوة للوراء ثم العكس أحياناً خطوة للأمام وخطوتان للوراء)، مع ما يعانيانه من روماتيزم المفاصل، ولا يصلح العطار ما أفسده الدهر، ونهضة الشعوب في زمننا هذا تقوم على صدق الولاء للوطن بسواعد شبابه المخلصين، لا حرارة تصفيق المتفرجين على الراقصين.