يحفل القاموس العربي بالعديد من المصطلحات التي تكرس لمبدأ التسول اللفظي العميق في وجدان الثقافة العربية، وتظهر في شكلها الحالي في مصطلحات حديثة لها اشتقاقاتها مثل "يا فندم، يا بيه، تكفى...." إلى نهاية القائمة التي يعرفها الجميع، كلٌ في مجتمعه، لأنه في ظل ضعف تطبيق القانون، وفهم ماهية النظام، والوعي بالمسؤولية، لن تكون هذه النتائج، سوى أمر طبيعي لتفكير المجتمع ذي الاتجاه الأفقي الذي يرى أن هذا تقدير مستحق وتنزيل للآخر في منزلته، وهذا في الحقيقة خلط في المفاهيم، إذ القدرة على احترام الآخر، أو هكذا نظن، من خلال التزلف له بعبارات التسول على أنها كلمة طيبة، هو خداع كبير للأخلاق، والتفاف على النظام والقانون في كثير من محطاتهما.

ويروي لنا التاريخ العربي عن هذه العادة في المجتمعات العربية في الشعر الذي استُخدم وسيلة للتكسب والارتزاق على طول تاريخ الثقافة العربية، وهو الذي يعتبر المدح أحد أهم أغراضه، بل كانت في الماضي البعيد أهمها على الإطلاق، ولا يزال عند البعض ذلك ساريا أيضا، فقد كان مصدر رزق "مقبول" يجلب لقمة العيش، لذا كان لا بد من توسيع دائرة الكذب والمبالغات فيه إلى حد بلغ درجة من السخرية ما لا حد له، وهنا يبرز جزء مهم من تشكل الصورة التالية لثقافة الشخصية العربية في جانبها المتسول، حتى آمنت بالعطايا أكثر من الحقوق، وبنت يومياتها وفكرها على هذا الأساس.

والتراث العربي الشعري مليء جدا بنماذج الشعر والشعراء المتسولين، وبما أن الشعر ديوان العرب كما يُقال، فلا غرابة أن تكون مجتمعاتنا مصبوغة بفكر التسول، تحت غطاء الكلمة الطيبة، والمقال على حسب المقام.

وإذا ما عرفنا أن المبالغة من جماليات الكلام في اللغة العربية، عرفنا أن هناك من حاول على الدوام استغلال هذه الجمالية، وتكريسها لخدمة مصالحه الشخصية، عبر إنزالها منزلة التسول، ليقفز من خلالها إلى ما يريد.

فالمبالغة في المدح والثناء، هي وسيلة استحوذ عليها المتسولون في كل ثقافات الشعوب حول العالم، لكنها زالت من طبيعة وعادات بعض المجتمعات المتقدمة، تلك التي حققت وقطعت شوطا كبيرا على مستوى الحقوق المدنية، وترتيب نظمها الديمقراطية. لكنها في المجتمعات العربية امتدت طبيعيا بما يساير الفكرة الثقافية "المتسولة" لها، حتى وصلت إلى كل مكان فيه مصلحة شخصية، وشجع على ذلك المسؤول أو الموظف أو العامل، من خلال استحسانه مثل هذه التصرفات القميئة، وكأنه يطالب بها الطرف الآخر حتى صارت مشاعا اجتماعيا.

حول هذا يقول الدكتور عبدالله العويشق في إحدى كتاباته في هذا الصدد: "تختلف درجة التسول باختلاف السلم الوظيفي للمسؤول، فإذا كنت تحتاج إلى توسلات بسيطة ومحدودة لموظف صغير ليؤدي عملا من واجبه أن يؤديه، فإنك تحتاج إلى سلسلة من العبارات التسولية، وخطبة تمهيدية مليئة بالتوسلات كلما عظم شأن المسؤول، وقد روى لي أحد الزملاء نموذجا لهذه، مما جعلها تتفوق على عبارات المتسولين في المساجد".

في الواقع، قبض العويشق على أحد أسوأ الصفات التي كرس لها كثيرون في الثقافة العربية الاجتماعية، والتي لا تزال شعارا أكيدا في قيمه وأخلاقياته لديهم، حتى أصبحت طريقة عيش وأسلوب حياة عندهم. تُرى متى سنتخلص من هذه العادة التي تحولت إلى نموذج للتعامل اليومي؟.