لعل من آكد ما ينبغي اتفاق طلبة علوم الدين عليه، وخصوصاً من قد يعاني من جمود الفكر والفكرة؛ الاتفاق على ضوابط تضبط أفكارهم، وتحدد اتجاه عقولهم، ولعل من أهم الضوابط المفقودة اليوم بين من سميتهم في بداية مقالي، ضابط تعرضهم للأحكام من وجهة نظر واحدة، والأدهى استماتتهم في الدفاع عنها، ودعوة الناس لها، بكل ما أتاهم الله من مواهب.

التعرض للحكم على الأمور، اعتماداً على نص واحد متعلق بها، مع إغماض النظر عن نصوص أخرى لنفس الموضوع، أمر خطير، ويدل على علم غير كاف؛ وكمثال على ذلك، الإصرار على منع القيام عند اللقاء، لحديث "من سره أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار"، مع ورود الإباحة على ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم، فقد كان إذا دخل على ابنته السيدة فاطمة قامت إليه، وإذا دخلت عليه قام إليها.

إن مما يجب فهمه وإشاعته، أن (الآراء بدائل متساوية)، وهذا معناه فتح مجال الاختيار للجميع، طالما كان الأمر غير مخالف لنص صريح، وكان فيه معونة على جلب مصلحة، ودرء مفسدة، دون تعصب لإمام، أو هجوم على إمام، ورحم الله الشيخ ابن تيمية، الذي بيّن في رسالته الشهيرة "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" أنهم جميعاً ينشدون الحق، ولا ينبغي أن يكون خلافهم المشروع مدعاة لملامتهم، أو التعصب لأحدهم، مرجعا أعذار الاختلافات إلى ثلاثة أصناف، مفرعاً عنها عشرة أسباب، وأدقها ـ عندي ـ "اعتقاد ضعف الحديث باجتهاد قد خالفه فيه غيره، مع قطع النظر عن طريق آخر، سواء أكان الصواب معه، أو مع غيره، أو معهما عند من يقول: كل مجتهد مصيب"، وأعجبني قوله: "إن مدارك العلم واسعة ولم نطلع نحن على جميع ما في بواطن العلماء، والعالم قد يبدي حجته، وقد لا يبديها، وإذا أبداها فقد تبلغنا، وقد لا تبلغ وإذا بلغتنا فقد ندرك موضع احتجاجه، وقد لا ندركه سواء كانت الحجة صوابا في نفس الأمر أم لا".

لا يمكن بحال، الوصول إلى فهم صائب في المسائل، دون مراعاة مجموع النصوص، أو الآراء الواردة فيها، وبدون ذلك نكون قد شغلنا أنفسنا بزائفات الأمور، لا بحقائقها، وتركنا الإسهام في بناء الفكر السليم المستقل عن التبعية العمياء، ولا أشك في أن معضلتنا الشائكة، أو من معضلاتنا الشائكة، أن الكوادر المتمكنة من فهم، وليس حفظ، العلوم الدينية المختلفة قليلة؛ في الوقت الذي زاد فيه تسارع الأمور من حولنا، وبصراحة أذكر أن الأقل في التأهيل، هو الأكثر في التعليق، وهذه وحدها مصيبة، وأي مصيبة.