أذكر جيدا من سورة الحاقة أعظم عقوبة، يمكن أن ينالها أعظم مفتر، يجازف بأعظم قول، أن كلامه من الله وليس من الله.
هكذا جاءت إحدى صور الخطاب بقطع الوتين، وإن كان المعنى قد تكرر كثيرا بلفظ (ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب؟).
يقول الله ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين. فما منكم من أحد عنه حاجزين. وإنه لتذكرة للمتقين. وإنا لنعلمُ أن منكم مكذبين. وإنه لحسرة على الكافرين. وإنه لحق اليقين. فسبح باسم ربك العظيم.
ولكن ماهو الوتين؟ ولماذا كانت الإصابة به لا خلاص منها ولا نجاة؟ والجواب إنه أعظم شريان في الجسم بقطر حوالي الإنش؟ فإذا انجرح وانخلع وتكسر قاد إلى المهلكة؟ إنه شريان الأبهر (Aorta) وما أدراك ما الأبهر؟ فهذا هو الوتين الذي إذا قطع مات صاحبه في دقائق، وهو ماواجهناه، ولكن لم يمت صاحبنا؛ بل كتبت له النجاة على يد رهط من الأطباء النجباء.
ليس ثمة إصابة من الخارج، لاكسر في الأضلاع، ولا جروح في جدار الصدر، كل ما كان يشكوه المريض ألم حاد في الصدر، بعد حادث مروري، حين ارتجت السيارة رجا فكان هباء منبثا، ولم يكن ثمة حزام أمان على الصدر، فطار وانخبط ولا يذكر ماذا حدث بالضبط؟
أما نحن فنعلم جيدا عن مثل هذه الحوادث؛ خاصة التي نتحف بها في أيام الأعياد والمناسبات وعطل نهاية الأسبوع؟ فإما انخلع الرأس إلى الخلف ثم رجع مرتدا إلى الأمام، فانفكت الرقبة، ووقعت العقبة، فانهرس النخاع؛ فمات صاحبها، أو أصيب بشلل رباعي واختناق في التنفس، وإما انخلع القلب من مكانه فشد قوس الأبهر الوتين الذي تحدثنا عنه، والوتين أنبوب طري قاسٍ فإذا كان الشد أكثر مما يتحمل انكسر عند حواف اتصال أقسامه بعضها ببعض. وهو ماحصل لصاحبنا المريض الذي استقبلناه وهو شاب في عمر أهل الجنة 33 عاما؟
وأصعب ما في الإصابة التشخيص والإنابة والإحالة، أن تشخيص طبيعة الإصابة يجب ألا ينام عليها الطبيب أو يتغافل أو يستسهل ويستخف، فقد تكون الإصابة رضا بسيطا على الصدر، وقد يكون القلب والوتين قد انخلع من مكانه، ويحتاج إلى تدخل جراحي في غاية الخطر، وبأسرع وقت ممكن ولكن صاحبنا تحمل ستة أيام حتى جاء الفرج وحولناه؟
أنا رجل أمارس الطب وأعرف دهاليزه وكهوفه، وسراديبه ومخاطره، وأيام عزه والانتفاخ، وأيام الكسرة والإحباط، وكنا فيما سبق من الأيام نفتح الصدر على مكان الإصابة ونبدأ بالإصلاح، ولكن الطب يتطور والأطباء الشباب من الجيل الحالي يشبه شباب الإنترنت والكمبيوتر، فقد طوروا تقنية جميلة بفكرة جميلة، جاءت امتدادا لجراحة المناظير، فجيلنا كان يفتح البطن والصدر على مرارة وكيسة، فيستأصل الحويصل الملتهب والكيس المشبوه، أما الأنورزما أي الانتفاخ في جدار الوتين فقد كان قاتلا فيما سبق مات فيه آينشتاين أبو النسبية، وهو بحث طريف من جهة الأطباء، أن نعرف طبيعة الأمراض التي مات فيها العباقرة الخالدون والمصلحون بل الأنبياء، وهو فصل خاص يحتاج كتابة مستقلة وأعجبها موت الطبيب بنفس العلة المختص بها والمعالج لها؟ مثل موت دكتور البولية بمرض المثانة، وجراح البطن بانفجار زايدة، وجراح الصدر بسرطان رئة مستفحل؟ لقد طور الجيل الجديد من الأطباء طريقا رائعا لايفتحون فيه الصدر بل يدخلون من أنابيب الأوعية فيدخلون أنبوبا داخل الأنبوب الشرياني يتجاوزون به مكان الإصابة، فيثبتون النهايتين بخطاطيف ومثبتات، متجاوزين مكان الانشقاق والتمزق والانفطار، وبذا يعيش المريض على شريان صناعي جديد داخل شريانه المصاب، أليس جميلا مثل هذا العمل العبقري؟
هذا مافعله أطباء الجامعة من زملائنا لمريضنا الباكستاني الذي ضربه الحظ في هذه الإصابة النادرة، أما صديقنا من الإمارات الذي انهرس عنده نخاع الظهر فلم يكن محظوظا مثل مريض الوتين فأصيب بشلل رباعي فهو يتكلم، ويطعمه أهله، ويحرك أصبعين من يده اليسرى لاستعمال الكمبيوتر، وسوف يبقى إلى أخر عمره حبيس هذه الإصابة، مقيد الأطراف رهين العزلة، ليس منه إلا الدماغ، كما في فيلم كابتن المستقبل بدماغ يطير في حوجلة زجاحية مع الكابتن وأوتو المساعد، تذوب عضلاته، وتتيبس مفاصله، ويتكوم ويتكور بدنه العاجز حتى يعلن الطب عن فتح جديد مبين.. بالمناسبة جرت أول محاولة مع كتابة المقالة عن أول عملية زرع ناجحة للخلايا الجذعية لنخاع الظهر.
أتى أمر الله فلاتستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون ينزل الملائكة بالروح من أمره..