كل من أنار الله بصيرته، يدرك أن أكثر من يتكلم بيننا عن العلم الشرعي، والاجتهاد فيه؛ بضاعتهم من الفقه قليلة، وتمكنهم من باقي العلوم الشرعية ضعيف، ومعرفتهم بالواقع، وما نزل بالناس من حوادث، نتيجة التطورات المختلفة، ضعيفة جدا، إن لم أقل منعدمة..
من أبجديات المعارف الشرعية، أن الفقيه الحقيقي هو ذاك الذي يستطيع تنزيل أحكام الله تعالى، على واقع أحوال الناس، ومن لا يعرف ذلك، فليس بالفقيه، ولا بالمتفقه، بل لا يحق له أن يتكلم في الفقه، ولا ينبغي له أن يجتهد في أمور الدين، وإطلاق الأحكام عليها؛ ولا شك أن الاجتهاد في مسائل الدين، أمر مهم للغاية، وبعد عصر النبوة أصبح ضرورة دينية، خاصة وأن النصوص محصورة، ونوازل الناس متجددة، ومن هنا كان لا بد من توفر حد الكفاءة فيمن يريد أن ينهض بحال الناس من الناحية الدينية، والكفاءة أعني بها التمكن من العلوم الشرعية، والتفقه فيها، مع المعرفة بالواقع..
دعم تدريس العلوم الدينية، أمر لا يمكن الاستغناء عنه، وهذا لا يكون إلا بدعم من يحاول ترقية تدريسها، وبهذا ينتشر الفقه بالدين، وينتهي التسيب في الاجتهاد، والفوضى في التجديد، ويتوقف الخروج عما أجمع عليه علماء الأمة، وتعود الصلة بين ماضيهم وحاضرنا، بدون مجازفات، أو إثارات، وقد ذكر ابن عبد البر في كتابه (جامع بيان العلم وفضله)، حديثا نفيسا عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نصه: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله؛ ينفون عنه تحريف الغالين، وتأويل المبطلين، وانتحال الجاهلين»، رواه الإمامان البيهقي وأحمد، وغيرهما، وفي التحذير من عدم صيانة العلم، يروى الإمام ابن ماجه، عن سيدنا عبدالله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قوله: «لو أن أهل العلم صانوا العلم ووضعوه عند أهله، لسادوا به أهل زمانهم، ولكنهم بذلوه لأهل الدنيا، لينالوا به من دنياهم، فهانوا عليهم»، رواه الإمام ابن ماجه.
اليوم.. نحن في أمس الحاجة إلى من يستوعب تراث الأمة وثقافتها، وإلى من يلم بمختلف المعارف، وإلى من يستطيع أن يورث لمن بعده ما ينفعهم، ولا يضرهم؛ فأغلبنا صار مشغولا بالمشكلات الزائفة، وتبعا لذلك انشغل إعلامنا بكل شيء، إلا المشكلات الحقيقية؛ فشَغلنا بالقشور، وجعلنا نترك مسائل التنمية الحضارية، ونغمض الأعين عن العدالة الاجتماعية، وننحي الأمور المعاصرة جانبا، مع أن هذا ينبغي أن يكون من أهم واجبات الوقت، وأن يتصدر أولويات الصادقين، والمخلصين، والجادين، ومن يحمل قدرا كبيرا من الإدراك، والوعي، والحكمة، قال تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}.