يمكن اعتبار هذا المقال نقدا للجماعة الثقافية أو بشكل أدق للصورة النمطية للمثقف. يمكن أن تتضح مبررات هذا النقد من خلال الصورة التالية: المثقف كائن مشغول بإنتاجه وإبداعه. مشغول بتحقيق أحلامه التي لا تنتهي: يريد الشهرة والوصول.. يريد أن يصل صوته إلى كل العالم. يريد أن يقرأه أكبر عدد ممكن من البشر. يريد أن يحبه الآخرون. يريد أن ينتج نظريته وفلسفته الخاصة، أن يسافر للعالم ويحكي حكايته التي لم تحك بعد.

في مشهد المثقف يبدو هو النجم الأول ومحور الاهتمام. المثقف مشغول بذاته. للإنصاف، لا بد من ذكر أن المثقف، أو على الأقل المثقف العضوي، يعتقد أنه شمعة تحترق لتضيء طريق الآخرين. كثيراً ما تغلف هذه الصورة الرومانسية الحكايات الداخلية للمثقفين والمثقفات. أقصد هنا الحكايات التي يفهم المثقف حياته في إطارها. لكن في كثير من الأحيان هذا الشعور لا يعكس سوى حالة الانغلاق على الذات التي ترسم للآخر مشهد النور وتحده بالظلام. عموما فكرة المقال يمكن إيضاحها بضريبة أقل من الافتراضات: في تقييم المثقف أو في تعريفه لا تحضر معايير ما يقدمه المثقف لغيره خارج عمله الثقافي. أي أن الحياة بمعناها الواسع خارج معايير التعريف بالمثقف.

المثقف المنتشي بإبداعه، يجلس لوحده في المقهى أو مع آخرين يحدثهم، يقرأ جريدته، يرشف فنجان قهوته السوداء، يلقي محاضرة، يوقع كتابه، يجلس ليرسم أحدهم بورتريهه. الباقي في حياة المثقف أقل أهمية أو ثانوي. ما هو الباقي؟ المثقف من أجل الآخرين: المثقف كأب، المثقف كزوج، المثقفة كأم وزوجه... الخ. المثقف كإنسان يقوم بأعماله اليومية من أجل من حوله، من أجل رعايتهم وتحمل مسؤوليتهم. المثقف حين يوصل أولاده للمدرسة، حين يطبخ لهم، حين يقوم بتنظيف أطفاله، المثقف حين يذاكر لأطفاله. كل هذا يتم تهميشه غالبا لأنه عادي ويومي وتقليدي ولا إبداع فيه. هنا يحضر هوس الإبداع والتجديد على حساب الجانب الأخلاقي في حياة الإنسان: أعني بهذا الجانب وجود الإنسان من أجل الآخرين.

هذه الملاحظة ليست جديدة. أرشدتني الدكتورة الهنوف الدغيشم إلى كتاب «حليب أسود» لأليف شفق. لم أقرأ الكتاب لكن لفتت انتباهي هذه العبارة التي وردت في قراءة هيثم حسين للكتاب. يكتب هيثم «تشير شفق إلى أن الروائي بصورة ما أناني، وعليه أن يكون كذلك كي يستطيع إنجاز أعماله التي تتطلب منه نوعاً من العزلة، أما الأمومة فأساسها العطاء. وتجد أن الروائي يبني غرفة صغيرة داخل ذهنه ويقفل الباب عليه كي لا يدخل عليه أحد. يخبئ هناك أسراره وطموحاته عن كل الأعين المتطفلة. أما الأم فعلى كل أبوابها ونوافذها أن تكون مشرعة صباح مساء، يستطيع أبناؤها أن يدخلوا من أي مدخل يختارونه، والتجول حيثما طاب لهم ذلك، فليست للأم زاوية لأسرارها».

بحسب المؤلفة فالمثقفة بالمعنى السائد للمثقفة لا تستطيع أن تكون أما. والمثقف بالمعنى السائد للمثقف لا يستطيع أن يكون أبا. الأمومة والأبوة تحتاجان الكثير من التضحية والصبر والقدرة على الانشغال بالآخرين والعناية بهم. في هذا الانشغال وهذه العناية يفقد الإنسان قدرة التحكم في مجرى الأمور كما يفقد المضيف التحكم في اختيار من يستضيف. هذا الفقدان للسيطرة هو برأيي جزء مهم من أسباب تعارض الأمومة والكتابة. العزلة، وهي الحالة المفضلة لكثير من الكتاب، فيها استعادة للسيطرة على الفضاء الخاص. فيها إزاحة للآخر للخارج. في العزلة يتم التحكم في الآخر باعتباره لا يحضر بذاته بل يتم استحضاره من الذات في حدود أغراضها وأهدافها. الآخر حتى وإن كان في غاية العزلة يبقى آخر في حدود الذات، في حدود رغباتها وأغراضها. لذا الآخر لا يحضر بذاته لأن حضوره مربك بالضرورة. العزلة بهذا المعنى فلترة وإشراف وتحكم وعالم ذاتي.

المثقف تغفر له كل إخفاقاته الأخلاقية في مقابل نص جميل ينتجه. أعني بذلك أن المعايير الأخلاقية، أعني بها هنا الوجود من أجل الآخرين، ليست ضمن المفكر فيه في قضايا من هو المثقف وما موقفي من المثقف. لذا المثقف، بالمعنى الدارج، لا يفاخر بخدمته لمن حوله بقدر ما يفاخر بمغامراته التي لا تنتهي، وهي مغامرات جاءت على حساب من حوله. الألم الذي أنتجه المثقف فيمن حوله لا يوازي شيئا في مقابل المتعة التي ينتجها أحد نصوصه. المقصد هنا ليس بالتأكيد شيطنة المثقف بقدر ما هو فهم تجربته وسر الألم الذي يطارده. المثقف في الأخير إنسان لا يستطيع الهروب من طبيعته الأخلاقية ولكنه في حيرة من أمره فهو مطارد بصورة مثالية لن يحققها إلا إذا عاش أنانيا. ولكنها تؤلمه في ذات الوقت، لأنها تؤلم من يحب. الأنانية في الأخير تؤذي صاحبها وتقضي على آماله في السعادة. الثقافة تقدم بديلا وهميا أو في أحسن الأحوال أملا، أنه يمكن العودة للآخر من الطريق الأبعد، من خلال التعبير بحب قد يصل يوما. المثقف بهذا المعنى مثل طفل أناني لا يريد التنازل لأن الآخرين ينازعونه على هويته، لا يريد التنازل ولكنه كذلك لا يكرههم. لكنه يريد أن يعبر لهم عن حبه من وراء حجاب. المثقف هنا مثل طفل لم يعد يستمتع بمشوار الصباح ليجلب الخبز الطازج لأهله. يريد شيئا مختلفا، ولكن لا شيء يساوي ذلك المشوار.