الكاتب يكتب، والشيخ يخطب، والمعلم يشرح، والطبيب يداوي، والموظف يستيقظ صباحا ليباشر عمله، والطالب يجد ويجتهد مدفوعا بالأمل. التاجر يعرض بضاعته، والمستهلك يبحث بين السلع، وفنان يصعد على المسرح ليغني وآخر يقدم مشهدا تمثيليا، وهكذا ينطلق الجميع في الوطن ليأخذوا منه ويقدموا له، هذا يقدم علما، وذاك يقدم أدبا، وثالث يبذل مجهودا فيبني أو يزرع، ورابع يقدم فنا فيغني أو يعزف، وآخر يخطب في الناس ويذكرهم بالله، لكن من بين كل هذه العطاءات، لا عطاء أجلّ وأسمى مما يقدمه الجندي الذي يحمل روحه ودمه بين كفيه متأهبا لموت يتوقعه في أي لحظة. يسترخص حياته ليوفر لكل من خلفه بيئة آمنة مستقرة يمارسون فيها أعمالهم وتعليمهم وعبادتهم وفنونهم، بيئة يسخطون فيها ومنها ويتراضون.

لا ثمن يمكن أن يدفعه الإنسان للوطن أغلى من الدم، ولا أحب على الجندي من دفع هذا الثمن، ولا كلمة في قواميسنا تفي الجندي حقه إلا الدعاء له بخير الجزاء، ولا أردأ من استغلال هذا الدم الذي يقدمه الجندي وهذه التضحية التي يبدلها، للبحث عن انتصارات تحزبية أو دعم أفكار وقناعات شخصية، وللأسف أن هذا الفعل الرديء نجده حاضرا اليوم أمام الكثير من القضايا، فلا يكاد يخرج فنان ليغني أو يعزف إلا وجاء من يردد بأن هذا ليس وقت الغناء والعزف فجنودنا مرابطون، فإن طالب البعض بالسينما أو المسرح قيل لهم: أين احترامكم لتضحيات جنودنا المرابطين؟ وهكذا نجد عبارة «جنودنا مرابطين» حاضرة بلا سبب أمام أغلب رغبات الترفيه، كأنها عبارة لجم وردع للآخر ودعم للقناعات والآراء الشخصية.

إن دور الجندي أن يوفر بيئة طبيعية آمنة للجميع، لا أن يحرس جماعة محددة أو أفكارا وقناعات شخصية، لا أن يحمي مبادئ وقيما بعينها، إنه يحمي الوطن ككل بكل من فيه وما فيه من تنوع للأفكار والقناعات والرغبات، ومتى ما ظن أحدنا أن الجندي يحمي قيمه وحده وقناعاته الخاصة أو مبادئ حزبه أو معايير الخير والصلاح التي يؤمن بها ويعتنقها، متى ما فعل أحدنا هذا بقصد أو بدون قصد، بحسن أو سوء نية فهو مشارك في تشويه البيئة الطبيعية الآمنة التي يبذل الجندي لأجل الحفاظ عليها روحه ودمه، مشاركا في تشويه هذه البيئة الآمنة حين يتعامل مع تضحيات الجنود العظيمة، على أنها مجرد أداة يعزز بها قيمه ومبادئه وأفكاره، أو مجرد وسيلة يكسب بها بعض النقاط لصالحه أو لصالح انتمائه.

إن الذين يظنون أن دور الجندي يتلخص في الدفاع عن قيمهم ومبادئهم وآرائهم وقناعاتهم الشخصية، سيظنون أو ربما ظنوا ولا يزالون على الظن، بأنهم وحدهم أهل العقيدة الصحيحة، وأن ثقافتهم وعقلياتهم وحدها السليمة، وأنهم المتفردون بالسير على الطريق القويم.

المسألة ليست مسألة جنود مرابطين، ولا بد من تقدير مجهودهم، فتقديرهم والإقرار بتضحياتهم واجب على الكل، المسألة في محاولات إلباس آراء وقناعات محددة رداء الفضيلة، بالتالي فكل رأي وقناعة ورغبة مخالفة سيتم التعامل معها كرذيلة تخالف الشرع والثوابت والنهج القويم، المسألة أن يتم التعامل مع من يحمل أفكارا مغايرة ورغبات مختلفة، أنه يمارس رذيلة ستشوه البيئة الطبيعية الآمنة التي يدافع عنها الجندي!.

إن من حق الجميع أن ينتقدوا ويتذمروا من أعمال كل الجهات الحكومية الخدمية، وهيئة الترفيه جهة ضمن هذه الجهات غير المنزهة عن النقد وحتى التذمر من توجهاتها، عن نفسي لا أرى أن الترفيه حتى الآن سليم، فالترفيه ثقافة وعلم قبل أن يكون حفلات غناء وطرب، وخلاصة معنى الترفيه هي إدخال السرور على النفس والترويح عنها وتجديد نشاطها، وهذه الأهداف يمكن تحقيقها بالمعرفة والمتعة والفائدة، بالتعليم واكتساب مهارات وفنون جديدة، ولا بأس حين تتحقق هذه الأهداف أو جزء منها أن تُقام حفلة طرب وغناء أو تجمع للتهريج، ويستمر النقد ويبقى مقبولا وحقا مصانا للجميع، الإشكالية حين يتم ربط النقد بالدين، ويتم ربط الفعل محل النقد بمخالفة الدين وأنه تشويه متعمد لصورة الوطن، وأن فيه ازدراء لتضحيات الجنود المرابطين، هنا يكون النقد أسوأ من الفعل محل النقد، ويكون الناقد أردأ من المنقود.