أتى علينا حين من الدهر كان الوعظ فيه مقتصرا على معرفة العبد ربه ودينه ونبيه، وإقامة الشعائر الدينية والمحافظة على صلاة الجماعة في المساجد، والزهد في الدنيا والتذكير بعذاب القبر وظلمته، والتبشير بالجنة ونعيمها، والتحذير من النار وجحيمها، والتعوذ من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وطاعة الوالدين، وصلة الأرحام، والحثّ على الصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخلاف ذلك من المواعظ الدينية التي تلين لها الأفئدة والقلوب، وتخشع لها الأبصار، وتَخضَلّ لها اللحى بالدموع، وخلاف ذلك من الفضائل التي كان يطرحها وعاظ لم يكونوا يحملون شهادات جامعية، ولا يستخدمون أجهزة بمؤثرات صوتية، وليس لهم دُرْبَة على الخطابة، والتأثير في الجماهير، كما يفعل عظماء الخطابة السياسيون، وإنما كانت مواعظهم صادقة تصدر عن سرائر طيبة، وأنفس بريئة لأناس تلقوا تعليمهم في المساجد، وحِلَق الذكر، والكتّاب (المَعْلامَة) على أيدي مشايخ فضلاء لم تلعب بهم الاختلافات المذهبية، ومتاهات السياسة، والانتماءات الحزبية المنطوية على مطامع دنيوية ومكتسبات سياسية.

ثم خلف من بعد أولئك وعّاظ آخرون من بني جلدتنا تأهلوا من المعاهد العلمية في بداياتها، وقليل منهم من تخرج في تخصص العلوم الشرعية، وهؤلاء انصبّت مواعظهم إلى جانب ما سبق على معالجة بعض الظواهر الاجتماعية، ومنها النهي عن سفور الوجه للمرأة، والاختلاط، والغناء والمزامير، وإسبال الثياب للرجال إلى أسفل الكعبين، وحلق اللحى، وتشبه الرجال بالنساء، ومحاربة لبس البنطال (البنطلون) الذي وفد إلينا من أرض الكفر -على حد أقوال بعضهم-، وإطالة الشَّعَر تشبّها بالخنافس (الفرقة الغنائية الإنجليزية المعروفة The beetles)، حتى قال لي أحدهم متعجبا: «الله المستعان! حينما كنا نطيل شعورنا قالوا عنا بَدْواً، وحينما حلقناه، وأطاله أبناؤنا قالوا عنهم خنافس»، وأيضا تحريم قص الشعر أو تصفيفه على ما كان يعرف باسم: (التواليت)، وخلاف ذلك من المستحدثات التي كانت مستنكرة في زمانهم؛ لكونها طارئة على مجتمعنا الذي كان -حينذاك- شبه منغلق.

أما اليوم فقد أصبحت تلك العادات من الأمور المألوفة.

ومن الظلم وصف تلك المرحلة بأنها مرحلة غَفْلَة، بل هي عندي بمقاييس زمانها مرحلة تنويرية في خطابها الدعوي الذي يرمي إلى هداية الناس، وتبصيرهم بأمور دينهم، والحثّ على كثير من الفضائل التي لا يختلف على أهميتها اثنان. إلا إذا كان هناك من يرى أن الصحوة مرتبطة بالخطاب الدعوي السياسي، وتلك من المفارقات العجيبة التي تحتاج إلى وقفة لا يتسع لها هذا الحيز.

ثم يلي هذه المرحلة مرحلة أخرى اتصفت بالخطاب السياسي، وهي بداية الصحوة عند كثيرين، ويأتي على رأس هذه المرحلة فضيلة الشيخ عبدالرحمن الدوسري، وهو سعودي كان مقيما في الكويت، ومنها قدم إلى المملكة، وكان -رحمه الله- خطيبا بليغا مفوها يلقي مواعظه في كل مكان حتى في الوزارات في أثناء الدوام الرسمي بعد صلاة الظهر، وأنا ممن حضر له موعظة في وزارة الزراعة، وكثيرا ما كانت مواعظه تستغرق ساعة فأكثر، وكان أكثر ما يحذّر منه الماسونية، والتَّغْرِيْب، وكان شديدا على القوميين والشيوعيين، ويأخذ على الزعماء المسلمين تقاعسهم تجاه القضية الفلسطينية، وقضية كشمير، وما تعانيه الأقليات المسلمة المغلوبة على أمرها في كل مكان من المعمورة. يليه الشيخ منّاع القطان -رحمه الله- وهو أستاذ جامعي مصري كان خطيبا في جامع مطار الملك عبدالعزيز بالرياض، الذي كان يؤمّه المصلون من أمكنة بعيدة، حتى إن المسجد كان يغصّ بهم من الصباح الباكر، وكانت تمتلئ بهم الساحات المجاورة له من جهاته الثلاث، وكان الشيخ مناع القطان حسن الطَّلْعَة، فصيحا صبيحا، عذب الصوت، جيد النَّغْمَة يؤثر في مستمعيه. وكان يغلب على خطبه ومواعظه الشأن السياسي، خصوصا ذلك الشأن الذي يخدم توجهاته السياسية، وانتماءاته الحزبية المعروفة، وما يتصل بها من شعارات وبرامج. وظهر كثير من مقلديه من وعاظنا الشباب في جعل الخطاب السياسي مقدما في مواعظهم على الترغيب والترهيب والجنة والنار، ومحاربة العادات الدخيلة على مجتمعنا كما كان يفعل سابقوهم. ومن أبرز وعاظ المرحلة التالية لعبدالرحمن الدوسري ومناع القطان -رحمهما الله- الداعية الكويتي أحمد الملقب بالقطان كذلك. وهو الذي انتشرت أشرطته في كل مكان من المملكة انتشار النار في الهشيم، وكانت معظم مواعظه سياسية، وكان لا يتورع في التعريض ببعض الزعماء العرب جهارا نهارا، وأذكر في بعض تسجيلاته الصوتية أنه كان يسمي الرئيس حافظ الأسد: «حافظ النَّعْجَة»، وازدادت هذه المرحلة رواجا مع استفحال الحرب الأهلية في أفغانستان، واستدعاء الرئيس الأفغاني «بابراككارمل» قوات سوفياتية للتدخل في أفغانستان، وكذا إدخال ما يعرف بالتوعية الإسلامية في مدارسنا التي تحوّل بعضها إلى منابر وعظ سياسي مكشوف انصبّ معظمه على الجهاد في سبيل الله، وتقاطر بعض شبابنا للتطوع للجهاد في أفغانستان، ثم في البوسنة، وربما في الشيشان بعد أن ضحوا بكل شيء في حياتهم بما في ذلك مستقبلهم الدراسي. وبرز في هذه المرحلة عدد من وعاظنا المثقفين بثقافة عصرية إلى جانب تخصصاتهم الدينية الجامعية، وخطابهم السياسي المكشوف، وهم لا يزالون يعيشون بيننا،ومنهم من له في وقتنا الحاضر نشاط في الشأن الاجتماعي، ويؤخذ على بعضهم في فورة شبابهم وفرط حماسهم التعريض ببعض فئات المجتمع في بعض تسجيلاتهم الصوتية، وتصنيفهم إلى ليبرالي ومحافظ، ويؤمل أن هذا التوجّه قد خفّ، وأنه في سبيله إلى الاختفاء.