أشار طه حسين مرة إلى أن واحدة من أخطر علامات تآكل البلدان، ثم الانتهاء بها إلى الانهيار، هي هجرة شبابها. أكثر البلدان العربية اليوم، باستثناء دولتين أو ثلاث، بفضل صمغ المال، لا يحلم شبابها بالرحيل فحسب، بل يخططون لذلك ويتحينون الفرصة، وبتذكرة واحدة، للمغادرة فقط، منهم من ينجح ومنهم من تنتهي به المحاولات إلى الاستسلام لواقعه الصعب وحياته المهددة، تحت وطأة القمع والتغييب، وفقدان العيش الكريم وحريات الحياة والرأي والتعبير والمشاركة، وقوائم طويلة من الحقوق المضاعة.

امسح هذه الخرائط طولا وعرضا، ستجد القهر والبطالة والفراغ وشح الدخل والحاجة، وأزمات السكن، وأعباء الأيام والغيظ هي فقط ما يملأ الصدور والبيوت، وبالطبع فإن المسؤولية، كل المسؤولية، تقع على عاتق السلطات وسياساتها وسلوكها، وأجهزتها المنخورة بالفساد والمحسوبيات والظلم الفاقع.

ولا حاجة للعودة للوراء لسنوات، أو استقصاء ما حدث ويحدث في عالمنا العربي الممتد، هاتان قصتان قريبتان، على سبيل المثال، وقعتا في أقل من شهر ونصف؛ بلدان مليئان بالموارد الطبيعية والبشرية والأهمية الجغرافية، مثل موريتانيا والسودان، لكنهما يعانيان من صنوف الفقر والضيق والنزاعات، وما شئت من رداءة التعليم والرعاية الصحية والتنمية.. الخ، حسناً، ماذا تفعل الدولة هناك؟ في موريتانيا تتحرك السلطة كاملة لأجل مقالة واحدة، كتبها محمد ولد الشيخ امخيطير، عاد وتراجع عنها. انتفض القضاء وأجهزة الأمن والإعلام، مع سيل من المؤتمرات والفعاليات المصاحبة، التي حقنت الشارع وزادت هياجه، وبدلاً عن أن يخرج المواطنون للاحتجاج على الأوضاع المعيشية والتنمية، كانت الآلاف المؤلفة قد احتشدت في مظاهرات غاضبة في نواكشوط نهاية يناير الماضي، بهتافات مدوية تطالب بعنق ولد الشيخ.

صحيح لأجل مقالة، المحكمة أجلت النطق بالحكم للمرة الثالثة، منذ اعتقال الشاب في 2013، وفي القصة كلها عجائب لا تحصى.

أما السودان، سلة الغذاء وأرض النيل والذهب، كما هي أرض الفاقة والانقسامات وتدهور المعيشة أيضاً، فقد هجمت شرطة الخرطوم قبل أيام قليلة، الأسبوع الماضي، على مرسم الفنانة التشكيلية الشابة إيثار عبدالعزيز، وهدمته على رأس حلمها ولوحاتها، وطحنت عناءها لسبع سنوات، وأكثر من مائتي لوحة. جرفت كل هذا في غمضة عين، لتغرق الفتاة في نوبة بكاء وحزن بالغتين. هل تعرفون إذاً لماذا يحلم الشباب العربي بالهجرة؟ لماذا يصبح الاغتراب والمنافي أمنيات وطموحاً؟ ألا تذكركم قصتا ولد الشيخ وإيثار بقصص أخرى؟ قصص كثيرة ومخجلة في مفازات الجحيم.