لو وجّه أحدهم هذا السؤال بعاليه لي شخصيا قبل 15 سنة لقلت أريد أن أحصل على شهادة عليا وأصبح أستاذا جامعيا! هذا غاية مطمعي، وذلك منتهى طموحي! الحكاية اليوم لم تعد تحتمل نفس الإجابة ولا تقبل بنفس الفكر والمنطق... حينما نعاود حساب لوغاريتمات الابتعاث اليوم ونعلم أن مئات الآلاف من الشباب والشابات يتناثرون في شرق الأرض وغربها وشمالها وجنوبها فإننا حتما لا نستطيع القول إن الهدف أن أحصل على شهادة عليا وأعود أستاذا جامعيا، لأن الجامعات السعودية والكليات التقنية والصناعية والصحية لا يمكن بحال أن تستوعب هذه الأعداد من الخريجين حصريا لمهنة التعليم.
أدبيات الابتعاث الحكومي والخاص تقتضي اليوم أن نكون أمام محددات أكثر حدة! وأمام عمليات «نخل» وغربلة أكثر انتقائية! كيان المبتعث النفسي وتكوينه الفسيولوجي والإدراكي بات مطالبا بحملة تغيير تنفض عنه إرث الابتعاث التقليدي المتمحور حول أستاذ الجامعة ذي الحقيبة الجلدية والنظارة المنسدلة على أرنبة أنفه! وبلغة أكثر عملية وأقرب لإيصال المراد فإنني واثق بأن محورين أساسيين لابد أن يكونا في دائرة التفكر والتبصر من قبل الباعث والمبتعث.
فالباعث مطالب اليوم بتحديد ما يريده بدقة من المبتعث الذي سيمكث سنين في الخارج.. لا يمكن اليوم أن أنظر إلى هدف مثل «تزويد الدارس بمستجدات تخصصه» إلا من زاوية واحدة وهي أنه هدف فضفاض عريض وواسع وغير محدد.. لماذا؟ لأن الاستزادة في بعض التخصصات التي لا تتوافق مع احتياجات البلد وطبيعة المرحلة وقبلهما تكوين المبتعث بشقيه النفسي والمادي ستكون في المحصلة استزادة مترفة وغير مفيدة وقد تتجاوز لمرحلة الهدر غير المجدي والإنفاق غير المحسوب.. الباعث أيضا مطالب بتقارير صارمة عن تطورات المبتعث الدراسية والتحصيلية تتجاوز المتبع في الملحقيات الثقافية لتكون أكثر دقة وأكثر متابعة من حيث إقناع الباعث بأن الاستثمار في المبتعث مجد (ومحرز) كما يقال! المبتعث أيضا يجب أن يتفهم أنه بات أمام زاوية خروج ضيقة جدا لا تتسع لأكثر من فرد واحد في كل وهلة! وبلغة أوضح فإن المبتعث الحديث لابد أن يدرك أن الابتعاث لا يعني جواز مرور للوظيفة بلا قيد ولا شرط... لذلك فإن منافسته في ميدان الأحقية يجب أن تكون منطلقا من نقاط تفوق تميزه عن بقية زملاء التخصص ورفاق الابتعاث. فمثلا لا يمكن لي شخصيا لو كنت رب عمل أو قياديا بجهة ما أن أقبل بمبتعث يملك مخزونا معرفيا كبيرا «على الطريقة الابتعاثية التقليدية»، لكنه يفتقر للإبداع المعرفي المثبت عمليا، ومفتقد لنقل الأفكار الخلاقة من بيئة الابتعاث في كافة نواحيها العلمية وغير العلمية في الشارع والمدرسة والحديقة والحي والحل والترحال، مضافا لها الأنظمة والقوانين التي ترفع من كفاءة الأداء في بيئة عمله المستقبلية.
خلاصة القول، إن رحلة الابتعاث يجب أن «تبعث» في الباعث والمبتعث كل جميل، وتستنطق كل ما هو رائع ومفيد، فهي - أي رحلة الابتعاث- ليست رحلة سياحية يخوضها شريكان لفترة تطول أو تقصر ليعود المبتعث متذمرا سلبيا غير منتج ولا مطور ولا محسن لأسلوب حياته الضيقة في محيط أسرته ولا مجتمعه الأكبر كمقر عمله وبلدته ووطنه وأمته.