الخبير بالكتب كالخبير بالألوان وأسمائها التي لا يعرفها إلا فنان تشكيلي؛ وفي المسافة بين أنواع الكتب تسكن قبائل القراء، فهناك قبيلة للكتاب القديم، تقدر ندرته، وتحافظ على ورقه الأصفر من التفتت، وهناك قبيلة للورق الصقيل، تعشق الأغلفة وألوانها وتصاميمها، وتحرص على تناسق الحجم.
وهناك من ينتمون إلى أساليب الكتب، فيفضلون لغة سهلة معاصرة أو صعبة متقعرة، ولا ينظرون إلا إلى لغة قلّ من يفهمها، ومن عاشق للرواية يكتسح عشقه لها المساحة المتاحة للقصيدة، فتتراجع أرض الدواوين على الرفوف من جهة، ويتراكم فوقها الغبار بينما يعاد طبع الروايات المفارقة تكرارا، وتتلقفها الأيدي في زمن غدت الرواية ديوان العرب.
هذا العام قرأت وسمعت أن قلة الزحام على معرض الرياض الدولي للكتاب كان سببه الأول فعاليات هيئة الترفيه المتزامنة مع انطلاقه، هذا الرأي لمسته أيضا في زيارتي للمعرض، فلا طوابير مبالغ فيها على بعض الدور التي كانت كذلك سابقا. وإن صح أن الترفيه قضى على الزحام فهذا يكشف أن الشباب الذي يزرع المعرض جيئة وذهابا دون حاجة اتجه إلى ما يجتذبه فعلا، وهذه غاية الترفيه الجيد.
الفترة الماضية مع نشاط الحفلات الغنائية وغيرها من الفعاليات أثارت ردود الفعل بين مبتهج ومعترض كما يحدث في كل قضايا الدنيا، أو كما هو المألوف، وكلا الطرفين يقدم حججا منطقية من جانبه على الأقل، ومن حجج البعض أن هناك أولويات أهم من الترفيه، وكأن هيئة الترفيه يجب أن تؤجل الترفيه حتى تطلب الحاجات، وهي بعيد كما قال جميل بثينة! السؤال الذي يطرحه الموقف: ما قيمة الرفاهية للإنسان فنا كانت أو غيره؟...الرفاهية حتى المكلفة قد يقدمها الإنسان على حاجات أهم منها في أحيان كثيرة؛ فيرى السيارة الفارهة مهما ارتفع ثمنها مكسبا، ويتذمر من ارتفاع تكاليف الزواج! وحين يقف الإنسان في طابور لتسديد فواتيره مهما تضايق من ارتفاع المبلغ إلا أنه يعود لرفاهيته التي يدفع ثمنها باستمرار؛ الفرق أن بعضنا يحسنون تقدير الأمور مع الأيام وآخرين لا يفعلون، كما أن الدخل العالي يغطي رفاهية صاحبه.
الغريب أننا نختلف في الاهتمامات وتقدير الجمال؛ ولن تفهم سر حماس إنسان لحضور أمسية أو أغنية ولو دفع الكثير بالنسبة له إلا أن هذا يرضي شيئا في ذاته. من يحب الكتب ورائحتها سيلاحق معارضها، ويخبرك عن تفاصيل دقيقة بين المعارض العربية، فهذا الأكثر مبيعا، وذاك الأغلى، وآخر أرخص، ومعرض فقير في عناوين كتبه، وآخر غني بفعالياته المصاحبة أو عروض سينمائية أو بالأسماء المدعوة له التي تثير شهية أصحاب القنوات والبرامج الثقافية. ندرة مناشط وأماكن الترفيه في سنوات خلت كان ضريبتها تضخم أسعار المتاح، مما جعل سعر خيمة متهالكة يعادل أو يفوق منتجعا في بلد سياحي، مما قاد إلى السياحة الخارجية الأرخص. إن كنتم محاطين بعشاق السفر لا شك أنكم سمعتم الربط بين الترفيه المحلي والسياحة الداخلية وتراجع الرغبة في السياحة الخارجية مع توافر الأجواء الجميلة.
الحاجة أم الاختراع، وأيضا في غياب الترفيه لعقود خلت انتشرت الفنون كانتشار العشوائيات في بطون الأودية غير مراقبة فنيا تفتقد الذائقة التي تميز الجيد وتنساق إليه، ثم خرجت لتكون شيلة كثيرا ما تنشد بصوت نشاز مع الاحترام للشيلات الجيدة القليلة كالتي تعزز الوطنية.
غياب تذوق الفن غيّب القدرة على متابعة العالمي الأجود، أو القبول بما يتاح، وقد يكون محملا بالأفكار والقيم المنافية لقيمنا.
أتمنى مع إتاحة الترفيه ومع توسع العلاقة بيننا وبين الحديقة في الحي ورصيف الممشى أننا اقتربنا أكثر من تعبير أجمل عن الذات، واحترام خيارات الآخرين في الحياة والترفيه تحت الأضواء.