في دراسة مشتركة للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، أجمع خبراء المال والاقتصاد والتجارة على أن الدول ذات التكاليف المرتفعة في الخدمات اللوجستية هي التي تفقد مزاياها الحقيقية وفرصها المثالية، وأن أكبر مصدر لهذه التكاليف لا يتمثل في تكلفة النقل والشحن ورسوم الموانئ ومناولة البضائع والرسوم الجمركية، بل يكمن في تدني مستوى خدمات الأجهزة الحكومية، وتفاقم وتيرة البيروقراطية، وانعدام مبادئ الشفافية والاستشراف، التي تعتبر جميعها عوامل أكثر أهمية للخدمات اللوجستية حتى من التكاليف نفسها.

هذه الدراسة، التي ترأس البنك الدولي فريق خبرائها وصدرت مطلع العام الجاري، تمت بعد اختيار الدول استنادا لأكثرها تصديرا واستيرادا وأهمها ارتباطا بالأسواق الدولية. كما جاءت هذه الدراسة نتيجة لاستقصاء أكثر من 5 آلاف معيار دولي مع حوالي 10 آلاف وكيل دولي للشحن، ليتم تقييم الخدمات اللوجستية في هذه الدول بناء على 6 أبعاد أساسية تقع على مقياس يتدرج من الأسوأ إلى الأفضل، شملت كفاءة الخدمات الحكومية، وجودة البنية التحتية المرتبطة بمجالي التجارة والنقل، ومدة عمليات التخليص الجمركي، وسهولة ترتيب الشحنات بأسعار تنافسية، والقدرة على متابعة خطوط سير الشحنات وتتبع مسارها، ومعدلات وصول الشحنات إلى أصحابها في الوقت المحدد لها.

في هذه الدراسة جاءت ألمانيا في المركز الأول بين 160 دولة لتحقق أعلى مستوى أداء بنسبة 100% وحصلت على 4.23 نقطة من 5 نقاط، لكونها تتعامل مع المستوردين والمصدرين من خلال شباك واحد في هيئة واحدة، خالية من البيروقراطية ومتشبعة بالكفاءة ومرتبطة بأفضل بنية تحتية. وجاءت لوكسمبورج في المرتبة الثانية بنسبة أداء 99.8%، لتتبعها السويد بنسبة 99.3%، ثم هولندا بنسبة 98.8% وسنغافورة بنسبة 97.4%، بينما جاءت المملكة في المركز 52 بنسبة كفاءة أداء لا تزيد عن 66.8%، لتحل في المرتبة السادسة عربيا بعد الإمارات التي حققت المركز 13 عالميا، وقطر التي جاءت في المرتبة 30، ثم البحرين التي حققت المركز 44، وعمان التي جاءت في المركز 48، ومصر التي سبقت المملكة في المرتبة 49 وبنسبة كفاءة أداء تساوي 67.7%.

في رؤية المملكة الطموحة 2030، اعتمدت الأهداف على موقعنا الجغرافي المميز الذي يطل على أهم طرق التجارة العالمية وأفضل الممرات المائية. ومن هذا المنطلق طالبت الرؤية بضرورة استغلال هذا الموقع المنفرد لزيادة تدفق التجارة العالمية بين آسيا وأوروبا وإفريقيا، وتعظيم مكاسبنا الاقتصادية. وركزت الرؤية على ضرورة تطوير موقعنا اللوجستي المميز والقريب من مصادر الطاقة ليكون محفزا لانطلاقة جديدة نحو الصناعة والتصدير وإعادة التصدير من خلال شركاتنا السعودية إلى جميع دول العالم.

ولكي نحقق هذه الأهداف طالبت الرؤية بضرورة ترسيخ الشراكة في الخدمات اللوجستية مع القطاع الخاص محليا ودوليا عن طريق الإجراءات الفعّالة وتطوير نظام جمركي ذي كفاءة عالية، وتعديل الأنظمة القائمة بما يمكّن مشغلي منظومة النقل وغيرهم من استثمار إمكاناتهم بصورة مثلى. وهذا سيؤدي إلى تقدم ترتيب المملكة في مؤشر الخدمات اللوجستية من المرتبة 49 إلى المركز 25 عالميا والمركز الأول إقليميا، لتصبح المملكة من خلالها مركزا رئيسا للتجارة العالمية، وتسهم في زيادة صادراتنا غير النفطية من 16% إلى 50% على الأقل من الناتج المحلي غير النفطي.

هذه الأهداف والتطلعات الطموحة تحتاج إلى عدة خطوات رئيسية تشمل التالي:

أولا: إعادة هيكلة القطاعات الحكومية المرتبطة بالخدمات اللوجستية، والتي تشمل وزارة النقل والمؤسسة العامة للموانئ ومصلحة الجمارك والجهات الأخرى ذات العلاقة، بحيث تتفق هذه القطاعات على إنشاء شباك واحد للخدمات اللوجستية من خلال هيئة مختصة في تحييد البيروقراطية ومنح الصلاحية وحصر المسؤولية.

ثانيا: اختيار المناطق الحرة القريبة من الموانئ السعودية الصالحة لمشاريع الخدمات اللوجستية والخارجة عن سلطات الجمارك والمرتبطة بكافة وسائل النقل من سكك حديدية وطرق برية ومطارات دولية، مع تقديم كافة أنواع الدعم والمساندة لهذه المناطق، من خلال تعديل الأنظمة وتحديث الأجهزة وتطوير المراقبة عن بعد.

ثالثا: تقليص الرسوم الباهظة المفروضة على الصادرات والواردات وإعفاؤها من الرسوم الجمركية، لكونها تعمل في المناطق الحرة أو مناطق الإيداع الخارجة عن النطاق الجمركي، مع ضرورة تشجيع شركات القطاع الخاص على تشغيل هذه المناطق والاستفادة من مقوماتها وتراخيصها بما يضمن أحقيتها النظامية في التصدير وإعادة التصدير، خاصة وأن الخدمات اللوجستية تعتمد في المقام الأول على الإدارة والكفاءة والسرعة في اتخاذ القرار لتأمين تدفق الموارد كمنتجات المصانع والطاقة والمعادن، حيث تكمن أهمية الخدمات اللوجستية الاحترافية في توفير المنتج النهائي أو المواد الخام في الوقت المناسب بالسعر المناسب.

رابعا: التركيز على توطين وظائف الخدمات اللوجستية بالمختصين لأهمية هذا النشاط في توليد وتوفير الوظائف، حيث يوظف ما نسبته 22% من القوى العاملة في الدول المتقدمة وتصل هذه النسبة إلى 30% في الدول النامية. وهذا يؤدي إلى زيادة المحتوى المحلي وتطوير التجارة المحلية والدولية وزيادة تنافسية المملكة، لتزداد مساهمة هذا النشاط في الناتج المحلي الإجمالي بنسب تصل إلى أكثر من 15%.

وإذا أردنا فعلا أن ننصف مكانة المملكة الفريدة على خارطة القرية الكونية وتحقيق رؤيتها الطموحة والمحددة بموقعها الإستراتيجي المميز، فلا بد لنا من أن نؤهلها لتصبح أفضل مركز في العالم للخدمات اللوجستية، خاصة وأن 33% من حجم التجارة العالمية تعبر ممراتها المائية.