لست رحالة كابن بطوطة أو مغامراً كسندباد، كل ما في الأمر أني قد زرت بضعة أماكن أسهمت في صياغة جُل أفكاري، وهذه من أهم فوائد السفر، أن يكتشف الإنسان، حين يزور بلاداً أخرى ويتعامل مع ثقافات مختلفة، أن كل ما كان يستكشفه في وطنه منذ الطفولة ليس سوى المقدمة التي تسبق المسرحية، فمسرح الحياة أكبر من حدود الوطن، أكبر من كل الأفكار والمعتقدات والقناعات التي يتم تداولها ومضغها داخل حدود الوطن، ما تظنه يقيناً في وطنك قد يكون موضع جدل في وطن آخر، ما تؤمن بأنه الحقيقة المطلقة في وطنك قد يكون مجرد وهم في أحد الأوطان.

 هذا لأن الأفكار والمعتقدات والمبادئ تعتبر أبناء بررة أو سجناء مقيدين بالوطن، وربما نحن من الشعوب القليلة التي تظن أن كل من هو خارج حدود الوطن يقعد لنا كل مرصد، وأنه يريد أن يحرفنا عن مسارنا القويم، لنتفاجأ في حال السفر بأن لا أحد في الخارج يحفل سوى بقوت يومه وتسديد دينه وإطعام أبنائه.

السفر أشبه بنافذة لا تطل على أوطان أخرى فقط، إنما أيضاً على وطن المسافر نفسه، نافذة تسمح له أن يرى مجتمعاً آخر من الداخل، وأيضاً أن يرى مجتمعه من الخارج، بهذا المعنى فمن لم يسافر أبداً فهو لا يعرف وطنه حقاً، من لا يعرف إلا وطنه فإنه لا يعرف وطنه حق المعرفة، لأنه سيظل حبيس الفرضيات والافتراضات المستقاة من ثقافة مجتمعه، ولن يتمكن أبداً من اختبار كل هذا ما لم يسافر للخارج، حينها سيدرك الصحيح فيما كان يفترض من الخطأ، وهذه ثاني أهم فوائد السفر، أن يبدد المرء كل الأوهام (المعشّشة) في عقله، فمن في الخارج ليسوا وحوشاً ولا حمائم سلام، إنما مجرد بشر لاهون في حياتهم وأعمالهم وراكضون خلف طلبات أبنائهم، حالهم كحالنا، يصرخون من أوجاعهم كما نصرخ من أوجاعنا، ينتقدون أوضاعهم بحدة، كما ننتقد أوضاعنا بحدة، وكلانا يظن أن لدى الآخر ما هو أجمل، وكلانا أيضاً يخوف أخاه وجاره بأن في الخارج ما هو أسوأ، فاصبر واحتسب.

من الأشياء التي تعلمتها في السفر أن الدول الأعلى جذباً للسياح هي الدول الأكثر ازدهاراً وتقدما، غير أن الدول لا تزدهر وتتقدم ما لم يكن لدى أبنائها شعور بالاعتزاز، اعتزاز بالأرض والتاريخ والحاضر بكل ما فيه من إنجازات، هذه الدول «أوروبا وتركيا كمثال» هي أكثر الدول التي يعاني فيها السائح من صعوبة إيصال معلومة واحدة، فأبناء هذه الدول المزدهرة والمتقدمة لا يتحدثون مع الغريب إلا بلغتهم، ويتحدثون بها مع السائح الغريب كما يتحدثون فيما بينهم وليس بكلماتٍ مكسرة، حتى وإن كان أحدهم يجيد اللغة الإنجليزية العالمية إلا أنه يفضل استخدام لغته الأم، وهذا ليس اعتزازا بلغتهم فقط، وإنما اعتزاز منهم بكيانهم وأرضهم، يتبلور ويبرز عن طريق الاعتزاز باللغة، كون لغتهم الأم هي خيارهم الأول، وتمسكهم بها هو سر تقدمهم، هذه هي المعادلة.

ثم عدت إلى وطني، ومرت الأيام كعادتها حتى جاء يوم وسمعت فيه عن واقعة حدثت في إحدى المدارس العالمية، عن إحدى الأمهات قد توجهت إلى إدارة المدرسة وهي في حالة غضب، وأنها أخذت تهدد وتتوعد الإدارة بالويل والثبور، لماذا؟! لأن ابنتها في اليوم السابق كانت قد أجرت معها حديثاً مختصراً باللغة العربية، ومما زاد الطين بلة، أن الابنة تحدثت باللهجة العامية!

هنا ثارت الأم وهاجت وأقسمت أن تنتقم لهذا التسيب شر انتقام، ولا تُلام الأم هنا، إنما اللوم يقع على ثقافة المجتمع، على الثقافة التي جعلت من اللغة العربية واللهجات العامية دليل تخلف، بينما تعاملت مع الطفل الذي لا يجيد سوى اللغة الإنجليزية على أنه أرقى وأعلى شأناً، من يُلام هنا هو ثقافتنا التي لا ترى بأساً أن يتحدث أبناؤنا بلغة «مسخ» بين العربية والإنجليزية فهذا من علو الشأن!، ولا أدري كيف السبيل إلى 2030 وبيننا من يربي أبناءه ويؤسسهم على التنكر للذات والأرض وللغة الأم؟!.

عموماً، للسفر فوائد عديدة يصعب حصرها، والحديث في هذا الشأن ذو شجون، والحديث ذو الشجون ليس حديث شرح وتوضيح، إنما هو حديث تسامر، وحبال التسامر طويلة بطول الليل، فقد يتساءل المسافر مثلاً: ما بال هؤلاء الكفار مطمئنون؟!، ما بالهم لا يسرقون علناً ويزنون في وضح النهار، لماذا طالما جهنم مأواهم وبئس المصير، يفضلون الصدق على الكذب، والتواضع على الزهو والتكبر؟ والأسئلة التي تطرأ على بال المسافر لا تنتهي، وعملية تبدل المفاهيم أبداً لا تستقر، وإن من الجميل أن يستكشف الإنسان ثقافات أخرى مختلفة، إلا أن الأجمل ألا يكون ما يكتشفه في الخارج سبباً يمنعه من رؤية وطنه الأجمل، يظل وطني الأجمل، جمالاً يجعلني أشتاق سريعاً للعودة إليه، لكل ما فيه من زحام وضجيج ومشاكسات وادعاءات أفضلية، لكل هذا الصخب الذي لم يُفقده أبداً هذه المسالمة التي يلتمسها كل من يعيش هنا أو حتى يمر مرور الكرام.