عهدنا مصطلح الإسلاموفوبيا في المجتمع الغربي بمختلف فئاته لكن فوجئت في جامعة اللغات والترجمة في بكين بأن ينبهنا البروفسور يوسف زيو إلى انتشار الإسلاموفوبيا بين شباب الصين، وهو أمر لم يكن يخطر ببالنا، حيث عبر زمان، منذ انفتاح الصين بعد ثورة ماوتسي تونج واحتياج المسلمين هناك إلى الكتب الدينية والشرعية بعد إتلاف جميع الكتب مع اندلاع الثورة الشيوعية على قاعدة «الدين أفيون الشعوب» ووفاة العلماء أو قتلهم، وبذلت محاولات فردية لإيصال الكتب إلى هناك مع بداية وفود الحجاج إلى المملكة، ولكنها للأسف أحدثت فتنة بين من أسموهم أتباع الدين القديم والجديد، وبدأ وقتها مصطلح الوهابية يطفو على السطح هناك، وهذه قصة أخرى.

في جامعة بكين تحدث رئيسها أمام خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز عن ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الصينية على يد البروفيسور محمد مكين (ماجين)، وأنها أوثق وأهم وأشهر الترجمات الموجودة، وانتشار هذه الترجمة تم بجهد سعودي هادئ لا يعرفه إلا القليل، فمحمد مكين تعلم في الأزهر وأسس أول قسم للغة العربية عام 1940م، وترجم القرآن الكريم وطبعت طبعة أولى محدودة وفيها أخطاء، وخاصة في التنسيق ومقابلة الآيات العربية بالترجمة الصينية، ثم قامت رابطة العالم الإسلامي بتكليف المؤرخ شمس الدين قاسم قو بهذا العمل، وكان المنسق من الرابطة حبيب الله على ما أذكر، ثم عرض العمل على لجنة خارجية أيدته وطبع في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف طبعات متعددة، وسارت النسخ مشرقاً ومغرباً وأصبحت هي الشائعة بأيدي المسلمين الصينيين، وهناك حادثة كادت أن تعصف بهذا المشروع عندما قام أحد طلاب العلم بكتابة ملاحظات كثيرة على ترجمة محمد مكين وصفها بأنها أخطاء عقدية في الترجمة من منظور الخلافات المذهبية، وللتاريخ كان للشيخ عبدالعزيز بن باز والشيخ حسن بن عبدالله آل الشيخ رحمهما الله دور كبير وقتها في دفع هذا المشروع ليرى النور.

هناك مشروعات وجهود سعودية أخرى جيدة ولكن يعيبها البطء وعدم وجود استراتيجية أو مشروع واضح، وكنا نخشى أن ينطبق علينا المثل «نمت وأدلج الناس»، ولكنها في السنتين الأخيرتين أثمرت عن جهد واضح، فمنذ إنشاء قسم اللغة العربية بجامعة بكين على يد محمد مكين ازداد عدد أقسام اللغة العربية فيها حتى وصل إلى 42 قسماً معتمداً غير الأقسام غير المعتمدة، وفي جامعة اللغات والثقافة تحدث لنا بالعربية البروفيسور لي يومنغ وقوجنغ جو ولين فنج مين عن موضوع مهم وهو قلة مساندة الرف العربي لهم، ويقصدون الكتب العربية والمترجمة منها إلى الصينية في رفوف المكتبات، وفي الوقت الذي نشطت فيه مصر وبعض دول الخليج وسورية كانت مشاركة السعودية ضعيفة، فهناك نشاط لجامعة السلطان قابوس ومركز الشيخ زايد وتبادل نشط من سورية ومصر في وقت انحصر اهتمامنا بطلاب المنح في الجامعات السعودية، وهذه أفادت في جوانب وفي جوانب أخرى لك عليها، والمشروع الكبير الذي افتتحه الملك سلمان في جامعة بكين بدأت فكرته منذ عام 1998 عندما لقي الأستاذ فيصل المعمر كتابا ممزقاً بالعربية يتداوله الطلاب فأهديت مجموعة من الكتب تبلغ ألف كتاب، من بينها لسان العرب ومراجع أخرى كاملة، وقابله إهداء عمدة بكين أرضاً ومفتاحاً ذهبياً وشكراً من رئيس الجامعة آنذاك؛ وفي عام 2006 في أثناء زيارة الملك عبدالله أهديت 5 مجموعات من خمسة آلاف كتاب، وفي عام 2009 وقعت مذكرة تفاهم بين الملك عبدالله والرئيس الصيني بإنشاء فرع لمكتبة الملك عبدالعزيز في جامعة بكين، واستغرق الموضوع نحو خمس سنوات من المفاوضات البطيئة، وعلى طريقة الملك سلمان في إنجاز الأمور بدأ المشروع الفعلي قبل عشرين شهراً فقط وأنجز وافتتحه خادم الحرمين الشريفين قبل نحو عشرة أيام، ويضم 24 ألف كتاب بالعربية، لتصل طاقته الاستيعابية في المستقبل 3 ملايين في جامعة تضم مكتبتها الحالية 11 مليون كتاب.

هناك نموذج ثالث مشرق هو مشروع سفينة القمر الذي يضم جناح المملكة في معرض إكسبو شنغهاي في 2010، ونفذته وزارة الشؤون البلدية والقروية، واستمر مفتوحاً للزوار لمدة ستة أشهر، حيث زاره نحو 7 ملايين زائر من أصل 70 مليون زائر لمعرض إكسبو، ثم طلب مسؤولو شنغهاي من السعودية أن يستمر المعرض مفتوحاً في الوقت الذي هدمت فيه أجنحة الدول الأخرى المشاركة، واستمر الجناح السعودي لخمس سنوات إضافية زاره أكثر من 4 ملايين زائر، واليوم ستهدم سفينة القمر التي تضم الجناح السعودي لأن الأرض ستباع، فتقدمت مدينة خانتشو التي استضافت قمة العشرين الأخيرة إلى السعودية بإعادة بناء سفينة القمر والجناح السعودي ليكون معرضاً دائماً فيها، واعتقد أن المفاوضات بهذا الجانب لا زالت جارية.

وبقاء سفينة القمر وهدمها يذكرانني بقصة برج إيفل إذ إن العادة المتبعة في معارض إكسبو العالمية أن الأجنحة التي تبنيها الدول تهدم بمجرد انتهاء فترة المعرض، وفي معرض إكسبو باريس بني برج إيفل وكانت النية أن يهدم بعدها لكن لفرادة البرج الذي لم يكن وقتها بهذا الطول بقي واستكمل تشييده للشكل الحالي، وسفينة القمر أرجو أن تنحو هذا المنحى لتكون نافذة دائمة للسعودية فيها.

خاتمة القول في الدروس المستفادة لجولة خادم الحرمين الشريفين للشرق الآسيوي ماليزيا وإندونيسيا وبروناي واليابان والصين أننا بحاجة إلى أن نترجم العمق العربي والإسلامي للسعودية بوجود الحرمين الشريفين وزعامة المملكة للعالم الإسلامي، الذي ارتكزت عليه رؤية 2030 إلى نتائج سياسية واقتصادية واجتماعية ودينية، وزعامة العالم الإسلامي ليست شعاراً سياسياً أو تضخيماً للذات أو بروتوكولاً سياسياً أو بروباجندا إعلامية، وإنما لمسناها في وجود الكبار والصغار على المستوى الشعبي وتهدج أصواتهم بحب السعودية وسكان بلاد الحرمين، وبحرص رجال الأعمال وإقبالهم، وبحفاوة المسؤولين السياسيين واهتمامهم، ويجب أن تكون هناك مشروعات استراتيجية مثمرة على المدى القريب والبعيد، وأن تتجنب المشروعات المزيفة بأسلوب الطبل: صوت عال وجوف خال، في محاضرات ولقاءات خارجية وأسابيع وأيام ثقافية لا قيمة ولا أثر لها سوى المصروفات والانتدابات، أو استضافات في الداخل لأسماء مكررة وهامشية ومجاملات شخصية، ومن جانب آخر يجب معالجة ردود الأفعال السلبية نتيجة ممارستنا غير الرشيدة من مشرعني رحلات اللذة والمتعة وسوء معاملة الحجاج والمعتمرين والعمال.