فلسفة التربية هي العلم أو التخصص الذي يجمع التربية والفلسفة، لكن طبيعة هذا الاجتماع غير متفق عليها. في هذا المقال، سأطرح تصورين أساسيين لعلاقة الفلسفة والتربية مع تعليق عليهما.

التصور الأول: ينظر إلى التربية على أنها مجال تطبيقي للأفكار الفلسفية. التصور الثاني: ينظر إلى التربية على أنها مجال إنتاج واختبار الأفكار الفلسفية.  سأتحدث بالتفصيل عن التصورين، لكن لا بد من التأكيد على أهمية فحص علاقة الفلسفة بالتربية، باعتبار أن هذه العلاقة لها أثر مباشر على تصورنا لإدارة العملية التربوية وربطها بالتصورات النظرية والأهداف الكبرى التي نسعى إليها.

في كثير من الأحيان تشتكي المعلمات ويشتكي المعلمون من التعامل معهم كأدوات تنفيذية لخطط تربوية لم يكن لهم رأي فيها. كما يشتكي مخططو التربية ومنظروها من عدم قدرة الميدان التربوي على تنفيذ أفكارهم. هذه الإشكالات ناتجة إلى حد كبير عن طبيعة العلاقة التي تربط الفلسفة بالتربية في أي نظام تربوي.  التصور الأول، وربما يمكننا القول إنه الأكثر انتشارا، يرى أن التربية هي الميدان التطبيقي للأفكار التربوية. هنا تصبح الفلسفة هي النظرية والتربية هي التطبيق.

الطريقة المعتادة للبحوث في فلسفة التربية التي تنطلق من هذا التصور تتم كالتالي: تبدأ الدراسة بمناقشة قضية فلسفية أو مفهوم فلسفي غالبا من خلال الجدل الفلسفي المتداول. تخلص الدراسة إلى رأي معين في القضية المطروحة، ثم تفتح في آخر الدراسة مبحثا للتطبيقات التربوية للنتائج الفلسفية التي تم الوصول إليها.

على سبيل المثال، يمكننا تصور دراسة بهذا المخطط: الموضوع الأساسي هو مفهوم الذات. الدراسة تبدأ بمناقشة مفهوم الذات من منظورين فلسفيين غالبا مختلفين: كأن نقول مفهوم الذات في فلسفة التنوير القائم على الفردانية، المسؤولية، وحرية الإرادة. في المقابل تناقش الدراسة مفهوم الذات المضاد في فلسفة ما بعد الحداثة، والذي ينظر إلى الذات على أنها نتيجة صراع الخطابات الثقافية والسياسية من حولها.

بعد ذلك، تخلص الدراسة «لنتصور أنها دراسة مميزة» إلى مفهوم جديد للذات يتجاوز المدرستين السابقتين. في آخر الدراسة نجد قسما خاصا للتطبيقات التربوية للمفهوم الجديد للذات.  مهمة هذا القسم هي الإجابة عن هذا السؤال: كيف يمكن تطبيق المفهوم الجديد للذات في التربية؟ أو ما الأثر الذي سيحدثه تطبيق المفهوم الجديد للذات على التربية؟ التربية هنا هي مجال تطبيق وتنفيذ الأفكار الفلسفية.

التصور الثاني لعلاقة التربية في الفلسفة، ينظر إلى التربية على أنها معمل الأفكار الفلسفية. بمعنى، أولا: أن الأفكار الفلسفية يجب أن تنبع من الإشكالات التربوية، وثانيا: أن يكون الميدان التربوي هو المجال الذي يتم فيه اختبار الأفكار الفلسفية والتحقق من جدارتها.  أبرز ممثلي هذا الطرح هو الفيلسوف «جون ديوي» بتعريفه المشهور للفلسفة على أنها «نظرية عامة في التربية». التربية عند «ديوي» تتسع لتشمل مجمل التواصل الإنساني، لذا فهي ليست محصورة في المجال المدرسي، بل تشمل كل العلاقات البشرية.

بهذا المعنى تكون الفلسفة، وهي استجابة لإشكالات التواصل والاجتماع الإنساني، قولا في التربية. وباعتبار الطبيعة التجريدية للفلسفة فإنها تكون قولا عاما في التربية. بهذا تكون التربية هي مجال التفكير الفلسفي لكن هذا لا يكفي بحسب «ديوي». التربية أيضا مجال الحكم على الأفكار الفلسفية. يرى «ديوي» أن هناك مغالطة تطارد الأطروحات الفلسفية، وهي تعاليها على اختبار الواقع.  يقول ديوي: الأفكار الفلسفية استجابة لأسئلة/ حاجات/ مشاكل تنبع من الخبرة الإنسانية. يحاول الفلاسفة الوصول إلى تصورات للتعامل مع تلك الحاجات والأسئلة، لكن الذي يحدث أن أجوبتهم أو تصوراتهم تتحول إلى حكم على الخبرات الإنسانية، بدلا من أن تكون الخبرة هي الحكم على الفكرة الفلسفية. هنا نقع بحسب «ديوي» في مشكلة جوهرية وهي أننا نفقد فرصة اختبار الأفكار الفلسفية والتأكد من صحتها. تعالي الأفكار الفلسفية على الخبرة البشرية يجعلنا أمام أفكار مغلقة قد نتورط في تطبيقها بسبب شهرتها الفلسفية رغم أننا لا نملك أدوات اختبارها.  ربط الفلسفة بالخبرة الإنسانية «التربية» كذلك يحمي البحث الفلسفي من الوقوع في المشاكل الزائفة التي قد يتبناها الباحث الفلسفي بحكم التراث عليه لا بحكم الواقع. أي أن تتولد لديه مشاكل معرفية وأسئلة بسبب انخراطه في تجربة إنسانية سابقة عليه وليس من خلال انخراطه في تجربته المعاصرة، الشخصية والمجتمعية.  لذا، عند «ديوي» لا يوجد فصل حقيقي بين الفلسفة والتربية، فالتربية هي الميدان الأم الذي يتحرك فيه الفكر الفلسفي، فمنه يستقي أسئلته وفيه يختبر إجاباته. بهذا التصور نستطيع ردم الفجوة بين النظرية والتطبيق، فلسنا أمام مستويين متمايزين بقدر ما نحن أمام دائرة متصلة يمثل فيها التطبيق والتنفيذ خطوات في العملية ذاتها. بهذا الشكل لا يكون الميدان التربوي، المدارس مثلا، موضعا لتطبيق الأفكار والتعليمات التي تصدر من الوزارة، بل يكون هو المجال الذي تنتج منه تلك الأفكار، وفيه فقط تتم عملية التقييم والحكم على فعالية تلك الأفكار وصلاحيتها.  يبدو أن مساحة المقال لم تعد تكفي للتعليق على التصورين أعلاه، ولعل ذلك يكون موضوع المقال القادم.

الفكرة الأساسية أننا أمام تصورين مهمين لعلاقة الفلسفة بالتربية، لهما تأثير على واقع التربية اليومي. التصور الأول يجعل التربية مجالا لتطبيق الأفكار الفلسفية، بينما يرى التصور الثاني أن التربية هي مجال التفكير الفلسفي ومعمل اختباره. المقال التالي تعليق على الفكرتين.