لو أننا نتعامل مع قضايا العمالة الوافدة بمنظور اقتصادي فقط لربما بدت أقل تعقيداً، رغم أن هذا المنظور يهمل الكثير من الجوانب الإنسانية ولكنه في المقابل يجعل الصورة أوضح بعد أن اختلطت التصورات كثيراً بين ما قبل الطفرة وبعدها. العمالة الوافدة مورد بشريّ، وككل الموارد الاقتصادية يخضع مباشرة لنظرية العرض والطلب. وحيثيات هذه النظرية تقول إن الرجوح في إحدى الكفتين يؤدي إلى ازدياد القوة التفاوضية للكفة الأخرى. رغم أن هذه النظرية أصبحت بدهية إلى حد أن الفرد يطبقها في الكثير من قراراته اليومية دون أن يشعر إلا أننا لم نتمكن من إحلالها بصيغتها البدهية هذه على قضايا العمالة الوافدة، ربما لأن تعقيدات السياسة والثقافة ألقت بظلالها على هذا المفهوم الاقتصادي البسيط وجعلته متعذراً على الاستلهام المباشر.
ردود الفعل التي صاحبت تغيير السفارة الفلبينية لشروط استقدام الخادمات دليلٌ على مركزية نظرية العرض والطلب، وأيضاً على غيابها عن الذهنية الشعبية عندما تعاملت مع الحدث. نقرأ ردود الأفعال الشعبية فنجدها صيغت بشكل يرمي إلى اتهام العمالة الفلبينية بتوهم الأهمية ونكران النعمة ولي الذراع، ونتساءل حينها كيف لصناع القرار في الفلبين أن يضعوا شروطاً يراها البعض تعجيزية (وهي ليست كذلك بطبيعة الحال) ويخاطرون بخسارة سوقٍ هائل مثل السعودية لتوظيف عمالتهم؟ هذا السؤال يتطاير من ردة فعل إلى أخرى عاجزاً عن أن يردف نفسه بالسؤال الأهم: هل يعقل أن يقوم الفلبينيون بهذا دون دراسة مسبقة وحساب دقيق للعواقب والفرص؟
في الفلبين، تعدّ تحويلات العمالة الفلبينية من الخارج إلى الداخل من المصادر الأساسية للدخل القوميّ. هذا يعني أن الفلبين تُعنى بتفاصيل إحلال عمالتها دولياً ومتابعتهم مثلما تُعنى السعودية بتفاصيل تصدير النفط وأسعاره. فكل عام يبعث العاملون الفلبينون ما مجموعه 13 مليار دولار إلى عوائلهم في الفلبين، هذا يعني أن سُبْع الدخل القومي الفلبيني يأتي من الحوالات الخارجية، ولأهمية هذه التحويلات وأثرها على الاقتصاد الفلبيني يقوم البنك المركزي الفلبيني كل عام بتعليق لوحة ضوئية كبيرة أمامه تحمل هذا الرقم ظاهراً للعيان ومدعاة للفخر. فالحكومة الفلبينية من الحكومات القلائل في العالم التي تنظر إلى عمالتها المدرّبة كفائدة تنافسية على المستوى الدولي، وتشجع مواطنيها باستمرار على البحث عن عمل خارج الفلبين، وتروج لهذا الأمر في صفوف اليافعين لعلهم يلحقون بأكثر من عشرة ملايين فلبيني يعملون خارج البلاد. وفي إطار هذا التشجيع تسعى الحكومة الفلبينية إلى تأهيل العمالة قبل إرسالها، وتسويقها جيداً في الدول التي تمنح امتيازات اقتصادية وتنموية، وتحمي مصالحهم فيها، والأهم من ذلك أنها تمنحهم حوافز ضريبية مغرية أثناء غيابهم وبعد عودتهم. وفي حين أننا دأبنا في السعودية على إطلاق لقب (السائق) و (الخادمة) على من يعمل منهم في بلادنا، فإن اللقب الذي تطلقه الحكومة الفلبينية على كل منهم هو (البطل الحديث).
لا شك إذن أن العمالة الفلبينية حققت تميزاً على غيرها من العمالة المدربة في العالم. سواء أكانوا سائقين أوخدماً أو ممرضات أو بائعين أو مهندسين، وسواء حلوا في دول الخليج أو كوريا الجنوبية أو اليابان وأوروبا وأميركا، فقد أثبتت الاستراتيجية الوطنية التي عملت على تأهيلهم وتسويقهم وتشجيعهم كفاءتها في توفير فرص عمل تنافسية لهم في أغلب قارات الأرض، ليعكس ذلك مدخولاً وطنياً هاماً لبلد فقير يرزح تحت ثقل تسعين مليون نسمة. ثمة عقول اقتصادية وحكومية تعمل في الفلبين على صياغة القرارات المتعلقة بإحلال عمالتها في الخارج، وهذه العقول عندما صاغت شروط إحلال عمالتها في السعودية أخذت في الاعتبار حجم السوق السعودي مقارنة بالسوق العالمي، واستخدمت قوتها التفاوضية المكتسبة بجدارة، وغيرت موقفها استجابة لمعادلة العرض والطلب. هذا التغير في الموقف وقع على السعوديين مثلما وقع عليهم ارتفاع سعر الأرز أو الحديد. ردود أفعالهم شبيهة: التنديد وإطلاق تهم الاستغلال والجشع.
في حقيقة الأمر، أن شروط العمالة الفلبينية الجديدة ليست بدعاً في عالم عقود الأعمال. فكل ما تطلبه الخادمة الفلبينية قبل أن تأتي في السعودية هو ما يسمى بـ(توصيف العمل) أو (job description)، وهو جزء أساسي من أي عرض وظيفي مصاغ بشكل قانوني، يوضح حجم العمل المطلوب، ومقدار الأجر المكافئ، والحقوق القانونية. وبما أن مساحة البيت وعدد الأطفال كلها عوامل لها انعكاس مباشر على (حجم العمل) الذي سيلقى على عاتق الخادمة، وبالتالي فإن المطالبة بتوضيحها قبل توقيع العقد واستقدام الخادمة هو أمر بدهيّ، مثلما أن صاحب العمل السعوديّ نفسه الذي يتذمر من شروط خادمته سيطالب بتوضيحها لو أنه حصل على عرض عمل من جهة حكومية أو شركة خاصة. ولنتخيل سيناريو أن يحصل شاب سعودي على عرض عمل في دولة أخرى، ثم يرفض صاحب العمل توضيح أي تفاصيل متعلقة بحجم الأعباء، هل سيبدو هذا عرضاً جاداً أم مثار سخرية؟
في الحقيقة، أنه سيكون مثار سخرية لأن المتقدم للوظيفة (سعودي)، بينما سيبدو عرضاً جاداً إذا كان المتقدم (فلبينياً). هذا يعكس للأسف عنصرية مركّبة. فهي عنصرية من ناحية الجنسية، وعنصرية من ناحية المستوى الوظيفي. فالخادمة لا تستحق الحصول على (توصيف العمل) لأن الذهنية الشعبية في السعودية تتصور أن الحصول على موطئ قدم في بلاد النفط هو حلم ربع سكان الأرض، وهذا يحرمهم أوتوماتيكياً من أي مطالبة بتوضيحات إضافية حول طبيعة العمل وحجمه. ولكن، على كل حال، لنتجنب البعد الأخلاقي بما أننا اتخذنا المنظور الاقتصادي من البداية. الفلبينيون وضعوا شروطهم على طاولة التفاوض، وبوسع أرباب العمل في السعودية رفضها أو قبولها، وفق ميكانيكية السوق.
ما هو متوقع من مفاوضات كهذه هو أن يتم حلها عن طريق وسطاء (في الغالب مكاتب الاستقدام) بين صاحب العمل والخادمة. وذلك لأن مكاتب الاستقدام هي المتضرر الأكبر من احتمالية توقف تدفق العمالة الفلبينية إلى السعودية، وبالتالي ستسعى جهدها لتطبيق الشروط الفلبينية دون أن يشعر صاحب العمل ربما، وربما سيقدم صاحب العمل تنازلاته أيضاً ما دامت لا تحمّله تبعات مادية من أجل أن يتمتع بخدمات عمالة مدرّبة وماهرة كالعمالة الفلبينية. ستمارس آليات السوق عملها المعتاد في الفصل في من يطلب ومن يعرض دون الحاجة إلى (هجاء) العمالة الفلبينية والتجمهر حول سفارتها، لأن ردة الفعل هذه إنما تؤكد للفلبينيين ما هم على قناعة منه منذ البداية.