أثارت فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء بـ"تحريم" عمل المرأة "محاسِبة" في المحال التجارية جدلا واسعا في المجتمع السعودي. ويقوم ذلك الجدل على عدم وضوح وظيفة العلماء الأساسية، وعدم وضوح طبيعة "الفتوى"، وعدم وضوح نظام الإفتاء في المملكة في أذهان كثير من الناس، بل حتى في أذهان بعض "طلبة العلم".

وكان الانطباع السائد بأن الفتوى التي تصدرها هيئات الإفتاء في المملكة ملزِمة سببا للنقد الذي وجه لتلك الفتوى. إذ ظن كثير من الناس أنه مادام أن فتاوى الهيئات الرسمية ملزمة فيجب التقيد بها.

لكن سماحة المفتي العام للمملكة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ أزال الغموض وقطع الجدل بتصريحه بأن الفتاوى ليست ملزمة. فقد أجاب عن سؤال وجه إليه إثر محاضرة ألقاها في مكة المكرمة قبل الحج بأن "المفتي عليه أن يوضح الحق ويبينه، وللإنسان قبول الفتوى أو عدم قبولها، فالمستفتى لا يلزمه إلا إيضاح الحق أما (قبول الفتوى) فيعود إلى كون الإنسان يقبل الحق ويقتنع به أو لا يقبل به ولا يقتنع به" (بتصرف)، صحيفة المدينة، 5/12/1431ه).

وكان سماحته، في تعليقه على نقد الكتّاب السعوديين للفتوى، أعف ألفاظا وأرقى تعبيرا من بعض "طلبة العلم" الذين لا يفتحون أفواههم ليتكلموا إلا ويبادرون بالشتيمة، واتهام الضمائر، ورمي من يخالفهم بالخيانة الثقافية والوطنية، وربما المروق من الدين.

ومع التقدير الكامل لعبارات سماحته الكريمة نحو الكتّاب الذين انتقدوا تلك الفتوى ودعائه لهم بالهداية إلا أن توصيفه لعدم قبول بعض الناس لبعض الفتاوى بأنه عدم قبول لـ"الحق وعدم اقتناع به" ربما لا يكون توصيفا ملائما. ذلك أن الفتوى، أية فتوى، ليست "الحق"، بل هي "رأي مثقَّف"، وحسب، محكوم بعوامل كثيرة ليس آخرَها المنطلقاتُ التأويلية التي يتفاوت المتخصصون فيها.

وكان سماحته أمينا في تصريحه بأن الفتاوى ليست ملزمة ـ حتى للشخص الذي طلبها. ولا شك أن هذا الرأي بعدم الإلزام بالفتوى يشمل الفتاوى التي تصدرها هيئات الإفتاء الرسمية السعودية. ومع هذا كله فلا ينهي هذا التصريحُ الغموضَ الذي ما يزال سائدا عن طبيعة الفتاوى الرسمية التي تصدرها تلك الهيئات. ولجلاء هذا الغموض ينبغي إيضاح النظام الذي يحكمها حتى يميِّز المواطنُ السعوديُّ الملزمَ من الفتاوى من غير الملزم.

وكان الاضطراب الذي شاع نتيجة لتعدد الفتاوى وتضاربها وجرأة بعض المفتين على الإفتاء بفتاوى غريبة هو ما حدا بخادم الحرمين الشريفين ـ حفظه الله ـ إلى إصدار توجيهه الكريم بتنظيم الفتوى وقصرها على هيئة كبار العلماء.

وقد ميز التوجيه الملكي الكريم بين نوعين من الفتاوى: الفتاوى الشخصية التي يستفتى فيها أحد "طلبة العلم" في أمر خاص بالمستفتي وتكون مقصورة عليه، والفتاوى المتعلقة بالشأن العام التي قصرها على هيئة كبار العلماء. لكن هذا التمييز لا يزال غامضا حتى في أذهان بعض "طلبة العلم"، وبعض أعضاء هيئة كبار العلماء نفسها.

ويشهد بذلك الغموض القواعدُ التي يرى الشيخ صالح الفوزان، عضو هيئة كبار العلماء، مثلا، أنها تحكم الإفتاء في بلادنا وينشأ عنها الإلزام بالفتوى التي تصدرها هيئات الإفتاء الرسمية. ومنها أنه "إذا اختلف العلماء في مسألة ولم يظهر الدليل مع أحد المختلفين فإن العبرة بحكم الحاكم لأنه يرفع الخلاف كما هي القاعدة المعروفة. والمراد بالحاكم هم أهل القضاء وأهل الإفتاء الذين عهد إليهم بهذين المنصبين ولا قول لأحد معهم لأجل ضبط الأمور وقطع النزاع وقيام مصالح العباد ولا تترك الأمور فوضى خصوصا في الأمور المهمة" (انظر مقالي: "المشكل في المنهج"، "الوطن"، 7/1/1431ه).

لكن قصر الفتوى على هيئة كبار العلماء في الأمور المهمة لا يعني إلا أن الناس ملزمون بالفتاوى التي تصدرها هيئة كبار العلماء في تلك الأمور وحدها. ويقتضي هذا تعريف الأمور المهمة بشكل لا لبس فيه. وهو ما لم يتوفر إلى الآن.

ويمكن القول بأن الأمور المهمة هي تلك التي تتعلق بالسياسات العامة للدولة، أما القضايا الدينية التعبدية وتلك المتعلقة بالعرف والتقاليد والتصرفات الفردية فالأمر فيها واسع، ولا يمكن أن يفتى بشأنها بفتاوى يلزم بها الجميع.

فالقضايا التي تصدر فيها هيئة كبار العلماء فتاوى محدودةٌ بطبيعتها، إذن. والأهم من ذلك أن هذه الفتاوى لا تكتسب قوة الإلزام بها لكونها صدرت عن هيئة كبار العلماء، بل لإصدار ولي الأمر أمره بالالتزام بها.

ومما يوجب هذا الإيضاح لوظيفة هيئة كبار العلماء ما يعنيه قول الشيخ الفوزان بأن هذه الهيئة هم "ولاة أمر". وهذا الفهم غير الدقيق لوظيفة هيئة كبار العلماء سائد، ويحتج به بعض المنافحين عن الهيئة الموقرة. ومن ذلك قول أحدهم: إن منتقدي الفتوى وقعوا "في خطأ استراتيجي وخطأ نظامي، فولي الأمر حفظه الله قصر الفتاوى على هيئة كبار العلماء ومنها اللجنة الدائمة للإفتاء المنبثقة منها، ولهذا أي كاتب أو صحفي ينتقد الهيئة وفتاويها إما جاهل أو مغرض، وفي كلتا الحالتين هو وقع في خطأ شرعي ونظامي، فالشرعي لأن الله سبحانه وتعالى أمرنا بطاعة ولي الأمر، والعلماء في الفتاوى هم ولاة الأمر ومخولون منه بذلك لهذا طاعتهم واجبة، ونظامي لأن في رفضها عصيانا لولي الأمر، لأنه خول اللجنة بالفتوى، وهي نالت ثقة الحكام في هذا الجانب ولو أن بعض الصحفيين تساءلوا أو كتبوا مستفسرين ومستوضحين حول الفتاوى فإن ذلك لم يكن هناك شيء يمنع منه شرعاً".

وهذا الادعاء بأن "العلماء" ولاةٌ أمر إلى جانب ولاة الأمر السياسيين يثار كثيرا. وهو غير صحيح، حتى بالمعنى المجازي، لأن العلماء الأجلاء لا بيعة لهم في عنق أحد من المواطنين الذين بايعوا القيادة السياسية السعودية بوصفها "ولي الأمر" الوحيد في الوطن. وليس هذا انتقاصا للعلماء لكنه قطع لبعض المحاولات التي يمكن أن تؤدي في نهاية الأمر إلى تأسيس "ولاية فقيه" سنية غير معهودة في تاريخ المذهب السني. وهي تعني إلزام المسلمين بتقليد العلماء، والانقياد باستسلام لما يرونه، وعدم التعبير عن آرائهم في أمور دينية تخصهم.

إن الوظيفة الأولى لـ"العلماء" تتمثل في البحث والتعليم والتوجيه. أما آراؤهم فآراء شخصية بشرية لا قدسية لها بذاتها، حتى لو سمِّيتْ بمصطلح "فتاوى" الديني. ولهؤلاء الفضلاء الحق، كالمواطنين الآخرين، في إبداء الرأي عما يُعرض عليهم من أمور، أو بما يبادرون هم بالتعبير عنه من آراء، ويمكن أن يستفيد الناس من تلك الآراء كثيرا. لكن ما ينبغي أن يكون واضحا أن آراءهم ليست لها ميزة خاصة بطبيعتها، ويمكن أن يرى غيرهم ما يخالفها، والأهم من ذلك كله أنه لا سلطة لهم على أحد.