لم أكن أعرف ولا أتابع تلك الطفلة الجميلة الموهوبة، وإنما جاءني اقتراح من برنامج «الإنستجرام» للمتابعة، فأثارت صورتها على حسابها فضولي وضغطتُ على الرابط، ثم أمضيت قرابة ساعة أتجول بين صورها وأفلامها ومشاركاتها المختلفة، وانتابتني مشاعر متناقضة. هنا صبية سعودية يتراوح عمرها ما بين العاشرة والثانية عشرة تقريبا، وهي جميلة وأنيقة وموهوبة، وتبدو كأميرة صغيرة من قصص ما قبل النوم. لا ليست مجرد طفلة بوجه جميل، بل من الواضح أنها تتمتع بالفعل بمواهب متعددة: الغناء والرقص والإلقاء والتمثيل والحديث مثل الكبار، وقد أعطاها الله فوق ذلك سماحة وقبولا وابتسامة آسرة. ما الذي أزعجني إذاً؟ ما شاهدته في بعض الصور وبعض الفيديوهات، حيث تساءلت حينها: هل من الصواب أن تتصرف هذه الصغيرة على هذا النحو؟ وأن تكون صورها وأفلامها متاحة للجميع هكذا؟ ولكن مهلا، أليس لها أبوان وهما مسؤولان عنها، وهما من يسمحان لها بكل هذا؟

فبرز السؤال الأصعب والأهم: فما حدود سلطة الوالدين على أبنائهما؟ هل هي مطلقة؟

الطفلة التي لفتت انتباهي تحديدا كان حالها أفضل بكثير من غيرها. إذ كان لبسها بشكل عام محتشما، وكانت تلبس وتتصرف كطفلة، ومن الواضح أن والديها وإخوتها معها باستمرار في المشاركات المختلفة. ومع ذلك لم يعجبني أن هذه الصغيرة التي توشك على دخول عالم الأنوثة، ترقص مثل الكبار على أنغام أغاني الكبار في مكان عام، وتتصور بأريحية مع رجال من مختلف الأعمار والجنسيات. فمهما حاولنا تجاهل حقيقة وجود من في أنفسهم مرض، ممن يشتهون الصغيرات، فهم موجودون للأسف في كل مجتمع، بدليل وجود زواج القاصرات ممن هن حتى أصغر سنا منها. فهناك من سيرى هذه الفراشة البريئة أنثى مغرية فحسب. كما أن وجود حسابات لها على وسائل التواصل الاجتماعي، التي هي أشبه بالشارع الذي يجول فيه كل من هب ودب، يجعلها عرضة لتعليقات مسيئة، ولتحرش لفظي، وحتى لمحاولة إغواء عبر طلب التواصل على الخاص.

من ناحية أخرى، أتخيل ماذا سيحصل لهذه الصغيرة خلال عامين على الأكثر، حينما تصل سن البلوغ، ويُفرض عليها الحجاب شرعا، مع مجموعة قيود شرعية واجتماعية أخرى، فهي على ما يبدو من عائلة محافظة. كيف سيتم إقناعها بالتخلي عن هذه الحياة الصاخبة فجأة؟ كيف ستتقبل فكرة أنه لا يصح أن تشارك صورها وحياتها بشكل عفوي كما تفعل الآن؟ من سيحميها من داء الشهرة اليوم، وداء ما بعد الشهرة غدا؟ وكيف تؤثر مشاركاتها المحلية والعربية من خلال المناسبات الوطنية والمهرجانات التسويقية المتواصلة على أولوياتها الأهم مثل دراستها وصحتها؟

وماذا عن الدخل الذي تتحصل عليه من هذه المشاركات، من سيديره ويحفظه لها حتى تبلغ سن الرشد؟ لعنة الشهرة للصغار لم ينج منها الأطفال حتى في الدول التي لديها برامج واضحة لحمايتهم، وقوانين رادعة لمنع استغلالهم، وتحويلهم إلى «مصدر دخل» لذويهم. وكم شاهدنا من قصص طلاق بين أهالي الأطفال المشاهير، وما يتبعها من معارك مريرة من أجل حق الحضانة والوصاية على أموالهم. فكانت الشهرة والثراء وبالاً على الطفل المشهور، وتسببت بتدمير مستقبله، وربما إصابته بأمراض نفسية لازمته طول العمر. أبرز مثال يحضرنا هنا هو الممثل الأميركي (ماكولي كالكن)، بطل فيلمي وحدي في المنزل 1و2 اللذين ذاع صيتهما في التسعينيات.

فوجئت بفتيات أخريات من عوائل محافظة ومتحفظة، إذ نرى صورة الابنة مع أمها، وهذه الأخيرة لا تظهر أي شبر من جسدها، في حين الابنة متناقضة معها بهيئتها. فهي ترتدي ما يُعتبر في عرف مجتمعنا لبسا غير لائق، كأن يكون ضيقا ومكشوفا وقصيرا جدا لفتاة باتت قاب قوسين أو أدنى من بلوغ سن التكليف، وتضع المكياج الكثيف وكأنها عروس في ليلة زفافها، وتظهر في الكثير من الصور التي فيها ميوعة وتقليد لعارضات الأزياء الغربيات.

الغريب أن بعض هؤلاء الصغيرات بدأت شهرتهن في قنوات «إسلامية»! ويبدو أن بعضهن قد انتقلن من مرحلة أناشيد الصغار أو أغاني الكبار إلى التنافس في إلقاء «الشيلات»!

جيلنا والأجيال السابقة لنا تربت على شيء من الشدة والحزم عندما يتعلق الأمر باللباس وتبادل الصور مع الصديقات منذ سن مبكرة، فأستغرب أن تعمد الأمهات أنفسهن، وهن من جيلنا، إلى نشر صور بناتهن الصغيرات بأبهى حلة على الحسابات الإلكترونية المفتوحة، بل يسعين إلى زيادة عدد المتابعين وعدد الإعجابات و«اللايكات» و«الريتويت»، ويتنافسن على ذلك.

في الوقت نفسه، فإن ممثلة مشهورة من هوليود وهي الأميركية آن هاثواي، والتي قامت مؤخرا بنشر صورة جانبية لصغيرها البالغ من العمر عاما واحدا بملابس النوم على حسابها في إنستجرام، ولا يظهر تقريبا شيء من ملامحه، قد أبدت ندمها الشديد على نشر تلك الصورة. فقد شعرت بأنها انتهكت خصوصيته، وربما عرضته للخطر من قبل بعض الأشخاص السيئين الذين يعج بهم الإنترنت. وقالت بأنها تنوي من الآن فصاعدا الانتباه لما تنشره من صور لعائلتها على شبكات التواصل الاجتماعي. فهذه الممثلة تدرك أن للكبار قوانينهم وللصغار أيضا، وأن من واجب الأبوين، بغض النظر عن الحياة التي يختارانها لأنفسهما، حماية صغارهما من الأخطار القريبة والبعيدة، الظاهرة والمحتملة.

نشر التوعية بين الأهالي خطوة أولى في الاتجاه الصحيح، بحيث نجعل هذه الأم ترى المشهد الأكبر كما يقال لما تقوم به اليوم مع طفلتها الجميلة أو الموهوبة، وتضع في الحسبان الانعكاسات المستقبلية. لا نطالب بحبس الصغيرات وعدم السماح لهن بالتعبير عن أنفسهن وممارسة ما يحببن فعله، ولكن لا بد من وجود شروط وقواعد وأحكام تضعها كل عائلة بحيث تضمن سلامة أبنائها الجسدية والعقلية والنفسية. أما الخطوة الثانية التي قد نحتاج إليها، فهي سن تنظيمات من قبل الدولة لحماية الأطفال، ومنع استغلال براءتهم وطفولتهم بهدف المال أو الشهرة، حتى من قبل أقرب الناس إليهم مثل والديهم.