حدثني ثقةٌ عن رجل يثق فيه، أن أحد الأحبة أخبره أنه قرأ ذات يوم في إحدى الكتب التي لا يحضره اسمها الآن، كلاما قاله أحد العلماء الثقات، إن أبرز علامات جهل المرء أن يصدّق كل حديث يبدؤه المتحدث بعبارة «حدثني ثقة» أو ما شابهها من عبارات على شاكلة «حدثني أحد الأحبة» أو «سمعت عن أحد الفضلاء» أو «أثبتت الدراسات العلمية» أو «قرأت في إحدى الكتب التي لا يحضرني اسمها»... إلخ من العبارات التي لا يقولها المتحدث للتأكيد على صحة ما يتحدث به، إنما كي يوهم المستمع أن ما يقوله صحيح ولا غبار عليه، وإن كان ينطق بهراءٍ لا جدال فيه، كأن يورد قصصا عن طائر لقلق قتل أنثاه لأنه شك في شرفها، أو عن فتاة أدمنت سماع الأغاني، وحين وافتها المنية قالت: أشهد أن الغناء...!!.

كذلك، حدثني ثقةٌ بسندٍ مهترئ مهلهل، أن الواجب على الجمهور أن يحيل كل ما يأتي بعد عبارة «حدثني ثقة» إلى سلة التكذيب، مع تنبيه قائلها إلى أن سنده مهترئ مهلهل لا يُعتد به بأي حال، فإن لم يفعل الجمهور -كما لا يفعلون اليوم ويفضلون تصديق محدثهم وتنزيهه ثم تنزيه أحاديثه عن كل معيبة- فهذا في حقيقة الأمر ليس ثقةً منهم في محدثهم الفاضل، إنما لأنهم يعيشون النتيجة المنطقية والطبيعية لعمليات التجهيل المنظمة، والتي خضعوا لها على مدى عقود، تجهيلا بدأ بتحريم الفلسفة وتدريس المنطق ونبذ إعمال العقل وكراهية طرح الأسئلة، إلخ من المساوئ التي من الطبيعي جدا أن تنتج عقولا تتقبل كثيرا من الهراء الذي لا يمكن قبوله أبدا، والأدهى أنهم لا يقفون فقط عند تقبله، إنما يضعونه في خانة المسلمات التي لا يجوز التشكيك فيها أبدا!.

ومما حدثني به أحد الثقات أيضا، أن الثقة التي يمنحها المتحدث لمن ينقل عنه ربما لا تكون في محلها، فقد يكون ناقل المعلومة كاذبا بطبعه لكنه يمثل دور الصادق فينقل بمراوغة، أو أن يكون ناقل المعلومة رجلا فاضلا لكنه يجهل أن المعلومة التي يحملها لا قيمة لها، والاعتبارات متعددة هنا.

لهذا، وجب على المتحدث أن يبين اسم وحال ناقل المعلومة، كي يتبين الآخرون في أمر من ينقل عنه، أكذّابٌ هو أم صادق أم أرعن يطير بكل معلومة على علاتها؟، فإن حدث وبين المتحدث اسم وحال الثقة الذي ينقل عنه، ثم تبين للآخرين بعد التمحيص أن ناقل المعلومة فعلا رجلا صادق نزيه، فلن يتم قبول المعلومة عند هذا الحد، إنما يتم الانتقال إلى مرحلة التدقيق في المعلومة ذاتها، للتعرف على منطقيتها ومعقوليتها، بعد كل هذه العملية يأتي التقرير إما بالرفض أو القبول.

كل هذه العمليات من تمحيص وتدقيق وفحص وإطالة نظر، تجري إنْ كشف المتحدث عن هوية من ينقل عنه ثقةً فيه، فكيف الحال وعبارة «حدثني ثقة» باتت تقال دون أن يكون خلفها شخص بعينه؟!

دعاةٌ ووعاظ وخطباء يسترسلون في الحديث مبتدئين بعبارة «حدثني ثقة» وليس خلفها إلا أشباح، يرددون العبارة وكأنها نوع من أنواع القسم والحلف، أو لتجنب الإكثار من القسم والحلف، والهدف هو إيهام المستمع بأن ما سيقال تاليا حتما صحيح ولا غبار عليه، بدلالة أنه منقول عن رجل ما مجهول لكنه من أهل الثقات الفضلاء، إنها عبارة باتت تقال انسياقا خلف عاطفة الجمهور، أو جرّا لهذه العاطفة في اتجاهات محددة، وطالما الكرة بالكامل في ملعب العاطفة فلتضرب بالمصداقية والأمانة عرض الحائط، غير مأسوفٍ عليهما.

الآن، ما الحل لهذه المعضلة؟، فالثقة المنقول عنه شبح، بمعنى أنه في الغالب لا يوجد ناقل للمعلومة من الأساس، فما الحل؟!

إنْ طالبنا باسم الثقة بغرض التوثق فلن يتم الكشف عنه، لا عمدا منهم ولا جهلا، إنما لأنهم ينطقون بها كما ينطقون بالقسم.

الحلّ أن نتجاوز مسألة البحث عن اسم وحال الثقة ناقل المعلومة، وننشغل بالفحص والتدقيق في المعلومة ذاتها، للتعرف على منطقيتها ومعقوليتها، والملاحظ أن كل حديث يأتي بعد «حدثني ثقة» يصب في اتجاهات محددة، إما عن النساء، عن تلك التي لبست العباءة على الكتف، والأخرى التي عملت في مكان مختلط، أو عن الموسيقى والفن وحال الفنانين، أو عن ملائكة تقاتل في المعارك، أي أنها في الغالب معلومات متوهمة توجَّه لإثارة مشاعر عاطفية، في عملية لا مراعاة فيها حتى لقول النبي -عليه الصلاة والسلام- «كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع».

إن القرآن هو مصدر التشريع الأول، تليه الأحاديث الصحيحة، وهنالك القرآنيون الذين يطالبون بإحالة حتى الصحيح من الأحاديث إلى القرآن، فما خالفه فيرد، وحجتهم أن القرآن هو المعيار الأساس، ولا يجوز تقديم مصدر آخر عليه، أو حتى مساواته به.

الإشكال الذي ظهر لاحقا، أن هنالك من راح يأخذ بكلام الرجال من مفسرين وشرّاح، على أنه مصدر تشريع مساوٍ، متجاهلين القرآن والسنة، والخوف أن يأتي زمن يصبح فيه «الكيس» مصدر تشريع يُعتد به، أن يأتي داعية أو واعظ ليشرع للناس من كيسه، وأداته الوحيدة أن يبتدئ حديثه ببضع عبارات على وزن «حدثني ثقة»!.