غدت جملة «وفق الضوابط الشرعية» تتردد كثيرا في السنوات الأخيرة وتستخدم من فئات مجتمعية كثيرة على اختلاف مسؤولياتهم ومواقعهم والظروف التي قيلت فيها، وتُقرن هذه العبارة عادة بالأمور الخلافية التي تثير جدلا أو تعد من قبيل الممنوعات والمحرمات حسب مفهوم البعض في تفسيراتهم وقراءاتهم للنصوص في فترة ما، ويلاحظ أن مثل هذه الأمور التي تعتبر حرجة في وقت ما تصبح عادية ومباحة ومن بديهيات الأمور ومجريات الحياة العادية بعد أن أجريت عليها بعض التعديلات البسيطة جداً والتي تكاد لا ترى بالعين المجردة، وترد هذه العبارة أكثر في بعض الأمور التي تكون المرأة طرفا فيها حيث يتم إقصاؤها لإيهام المتلقين بأن الحرج أو الخلل قد صحح بإقصاء المرأة لأنها بنظرهم الذنب الذي لا يغتفر، وهي أساس الفتنة وانحراف الرجل والخروج عن الفطرة السليمة، ليخرج الحكم بعد ذلك «وفق الضوابط الشرعية».

يتفق مطلقو هذه العبارة في أنهم يتحايلون على ردات فعل بعض فئات المجتمع فيما يخص قاعدة الأحوط أو سد الذرائع في الفقه، ويختلفون في الغايات والمصالح المتباينة بين شخص وآخر حسب ما تمليه عليهم حاجاتهم الشخصي أو ظروفهم الآنية.

فحين يقوم داعية في منصة رسمية وبحضور كثيف من الشباب بتقديم فنان ومطرب ويرحب به للمسرح لإحياء أمسية فنية، ولكن برأيه «وفق الضوابط الشرعية»، رغم أن هذا الداعية كان من أبرز معارضي هذا الفن سابقاً، ومن أكثر من حارب صوت هذا المطرب وحفلاته ودعا عليه، وعلى المنظمين لها على المنابر، واليوم نجده يمجد صوته ويبين للحضور كيف أن الله سبحانه وتعالى يميز بعض الأصوات ويهبها القدرة على سحر العقول كما يقول: إن الصوت الحسن من النعم التي يزيدها الله تعالى لبعض دون بعض، ويستشهد بحديث عن المصطفى عليه السلام، ويشبه هذا الفنان بصحابي تميز بحسن صوته في قراءة القرآن، وهو الصحابي الجليل أبو موسى الأشعري رضي الله عنه.

ليست هناك أدنى مشكلة في تغيير الشخص موقفه وقناعاته وآراءه مع تغير الوقت وظروف الاجتهاد، بل يسعدني هذا، ونتمنى المزيد مع الثبات على الأحكام والتشريعات الصادقة حتى نبتعد عن ممارسة النفاق الاجتماعي، والأخذ بحكمة المصالح: إذا كنت لا تستطيع تغيير الظروف، غير من موقفك تجاهها، انظر بطريقة مختلفة للأمور، والحياة سوف تتدفق في الاتجاه الآخر.

في المقابل فإن المشكلة هي مع الطرف الآخر في هذه الحكاية، مع جماعة المتلقين الذين ما زالوا ينساقون خلف الحيل والشعارات والهتافات التي ينادي بها مثل هؤلاء ثم بعد مدة يناقضونها حسب ما تمليه عليهم علاقاتهم ومصالحهم الشخصية، يؤلمنا أنهم لا يسترجعون مثل هذه الأحداث المشابهة سابقاً وأفعال هؤلاء، وإن استرجعوها لا يميزون أو يتعظون منها، فقد تسلطت هذه الجماعة على عقولهم وسيطرت عليها، حتى أصحبوا كسنارة الصيد يصطادون بها ما يشاؤون، لا يتذكرون الشواهد التي تتكرر في كل مرة وما تشرحه وتبينه الأقلام والأصوات الواعية في مختلف وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة والتي تفسر مواقف هؤلاء من كل جديد، وأنه بمجرد ظهور أي أمر جديد على الساحة يبدأون بالحرب عليه ليصطف المعارضون خلفهم لا إرادياً عقب ذلك، ويسيرون وفق ما يطلبونه منهم في إرسال رسائل الاستنكار والرفض حتى يلقون هم ما يريدون من كسب الجماهيرية بالمواقف المعارضة والأحكام الحاسمة القطعية في أمور خلافية أو مباحة، بعد ذلك تتغير مواقفهم ويبدأون في تحسين صورة هذا الأمر أمام أتباعهم ويزخرفون فيه ويعدلونه ليخرجونه «وفق الضوابط الشرعية».

مصطلح الضوابط الشرعية عام وفضفاض في السياق المستعمل فيه ولكي نكون أمناء في البحث عما يرضي الله سبحانه وتعالى في كافة أمور حياتنا علينا أن نطالب مستخدمي العبارة بتوضيح ماهية آلية الضوابط الشرعية التي تبقى ثابتة ولا تتغير بتغير الزمان أو تغير أهواء هؤلاء الناس ومصالحهم.