كان الليل مرتبطا بالحكايا التي ترويها الجدات، كنا نبتهج بها وبأبي عندما يحكي لنا قصصا بنكهة مختلفة.. أذكر أن أختي كانت تطلب بعض الحيوانات التي تطوف بخيالها أو تشاهدها.

يوما حكى لنا أبي عن حصان، فقاطعته، وطلبت منه أن يشتري لها حصانا؛ وأسرعتُ غاضبة أسألها: أين سنضع الحصان في بيتنا؟! وتفسد الحكاية في ذهني، وأنشغل بالتفكير بمكان الحصان! مرت السنون وبقي السؤال دون إجابة، فلا مكان لحصان لم يوجد أصلا؛ فليس سوى رسم لخيال الطفولة المزدحم بكائنات كثيرة، يحبّ بعضها، ويخاف من البعض الآخر.

الحصان طيب الذكر عندما كبرنا اكتشفت أن لونه أبيض، وأن هناك فارسا يأتي عليه، وبالتالي كل فتاة تنتظر فارس أحلامها وحصانه، فيتوفر المكان والزمان ولا يحضر الفارس ولا الحصان ولا البياض إلا بياض الأمل!

الأفكار الخلاقة تشبه بالونات مملوءة بالهليوم، يجب أن نمسك بها جيدا لنستمتع بها وحتى لا تبتعد عنا إلى سماء غيرنا... أذكر طالبة في المرحلة الثانوية بمنطقة العريجا قدمت فكرة الملف الصحي المربوط ببطاقة إلكترونية، وناضلت معها مشرفة صديقة من مكتب الإشراف الذي تتبع له مدرستها في محاولة لتتبنى الوزارة هذه الفكرة، وشرحتها قبل ست سنوات، لكن لم يكن لها مكان، وأفضل ما عرض عليها أن تشتري جهة منها - أظنها خاصة- حقوق استخدام الفكرة بمبلغ عشرين ألف ريال ..رفضت الطالبة الواعية العرض وطارت الفكرة الملونة مِنَّا ومنها إلى الأبد.

قبل أيام وجدت فكرة مشابهة أصبحت واقعا، وتطبق في دولة مجاورة وجدت مكانا لكل الأفكار الخلاقة.

أعداء الإبداع والنجاح لا تجدهم إلا منظرين ومثاليين ويبحثون عمن يصنع واقعا مختلفا؛ حتى يطرح ألمعي فكرة خلاقة يحتاجها المجتمع ستجد من يفسد الطرح، ويبحث عن الأسباب التي تمنع حدوث الفعل الخلاق...والأدهى والأمرّ أن الإحباط ساد في أوساط المبدعين الذين عجزوا عن أن يجدوا الدعم كما أن الفكرة الوحيدة الخلاقة التي رسخت بعد الإيمان بدعاوى قتلت الحصان، أو طلبت منه أن يحفر قبره وينظر إلى مصرعه، وبنت له بيتا في خيالاتها التي تحتفي بالموت لكل الأحياء، حتى مل الحياة التي بدت غير منطقية، فاضطر الحصان إلى أن يقتل نفسه!

فأصبحنا نفتقد المبدعين من الشباب والمبادرين في مرحلة مضت. أعود إلى فكرة الطالبة التي طالبت ببطاقة تقود إلى الملف الصحي، وأسأل لو طبقت أين كانت ستصل هذه الطالبة اليوم؟ لا شك أنها ستكون قد حققت دخلا ممتازا وشهرة، وربما زودتنا بأفكار أكبر مع أن صحة الإنسان ومتابعتها فكرة كبيرة ومهمة جدا.

الذين وضعوا العربات كعقبات أمام خيول الفكر يتجاهلون أن الريادة ليست سوى أن تؤمن بالأفكار الخلاقة، وترى المستقبل من خلالها حاضرا أمام عينيك، وتتماهى مع من يدعمها، وتبذل الجهد، وأوله أن تفسح الطريق للحصان الجامح ليجري في مضمار السباق وسيفوز، لكن إن أوقفته فأنت تحكم عليه بالفشل قبل أن تراه يتحرك.

لو سألت الناجحين عن نجاحهم لوجدت أنهم يتفقون على أمر، هو أنهم وجدوا عملا أحبوه أو ابتكروه وأصبحوا من رواده. وما دام الحديث عن الصحة فلاشك أننا نلمس تطورا يقوده وزيرها الحالي، وأتمنى أن يتم من خلاله إحداث نقلات في الرعاية الصحية، والعودة إلى تفعيل البرامج الوقائية، وتعزيز التكافل الاجتماعي للمرضى، خاصة في مجال من يرعون المرضى في منازلهم وتقديم المشورة من متطوعين مستعدين لخدمة ذويهم وتبادل الخبرات معهم.

الصحة ملف كبير يحتاج إلى دعم وتوعية ورعاية وتقليل فترات المواعيد، وتوحيد الملف الطبي للمريض في كل مكان من المركز الصحي للمستشفى الحكومي، بحيث تتاح متابعته، والتأكد من سلامة ما يتخذ من إجراءات له، وتحفظ الحقوق الصحية والمادية.