يظل التوطين والإحلال هدفا نسعى إليه في جميع القطاعات العامة والخاصة في حال وجود الكفاءات الوطنية المؤهلة والقادرة على أداء المهام الموكلة لها، والقيام بالدور المطلوب منها على أكمل وجه وأفضل مستوى، بحيث تحتضن قطاعات الدولة المختلفة بجميع مؤسساتها مخرجات التعليم الشابة من أبنائنا وبناتنا في التخصصات المختلفة وبمختلف مستوياتهم التأهيلية العلمية، وذلك يشمل بالطبع من تخرجوا من جامعاتنا في داخل الوطن أو الذين وفدوا من الخارج بشهاداتهم العلمية ودرجاتهم المختلفة التي تأهلوا بها، لينضموا جميعهم إلى موكب الخريجين للمشاركة في مسيرة البناء والنماء في ظل وطن يحتويهم ويفتخر بهم ليكونوا اللبنات الأساسية التي يُبنى عليها الوطن، وبهم تكون المنجزات والتنمية الشاملة المستدامة.

وعلى الرغم من أهمية تفعيل التوطين في كافة قطاعات الدولة لاحتواء ذلك الكم من الخريجين والخريجات للمشاركة في مسيرة التنمية، من خلال توفير وظائف لهم كمسؤولية وطنية، وللحد من البطالة التي تزداد يوما بعد يوم، إلا أننا لا بد من أن نعترف بأن تلك السياسة الموجهة نـحو التوطين الكامل دون انتقائية، تحتاج إلى روية وصبر ومرونة في بعض القطاعات التي منها التعليم (وذلك على اعتبار أن المتعاقدين الموجودين أكثر كفاءة فعليا)، وذلك بعد أن حقق ذلك القطاع اكتفاء كبيرا في منسوبيه من المواطنين كمعلمين ومعلمات بصفة خاصة، باعتبار أن قطاع التعليم هو من احتوى ذلك الكم الكبير من الخريجات بتخصصاتهم المختلفة، لمحدودية الفرص الوظيفية المتاحة للإناث في قطاعات الدولة الأخرى من العام والخاص من جهة، ولمردوده المادي الملائم وبيئة العمل التي تناسب الثقافة المجتمعية الغالبة من جهة أخرى.

وحيث إن التعليم بجميع مراحله ما قبل الجامعي يحتاج إلى وقفة واهتمام كبير بمضمونه وبنظامه وبمستوى أدائه الإداري والمهني الوظيفي ذي الصلة بالمعلمين والمعلمات، بل وبأساليب التقويم ومدى شفافيتها وإخضاعها لمعايير علمية دقيقة ونزيهة، بالإضافة إلى ما يشهده ذلك القطاع من قصور كبير في تفعيل التدريب المستمر للارتقاء بمستوى وبقدرات منسوبيه بما يتناسب مع التقنيات الحديثة وطرق التعليم المبتكرة والمتطورة التي تنعكس على مخرجاته من الطلاب في مراحلهم المختلفة، وعليه تَستكْمل تلك المخرجات مسيرتها التعليمية من خلال التعليم الجامعي، وفي ظل ما تتعرض له نسب القبول في الجامعات من ضغوط مجتمعية تدفعها للقبول بتلك المخرجات التي يغلب عليها الضعف في مستواها العلمي ومخزونها المعرفي، وبالتالي ولأسباب مختلفة -لا يتسع المجال لتفصيلها- نجد أن معظم الأكاديميين يجدون أنفسهم مضطرين إلى الدفع بهؤلاء الطلاب والطالبات نـحو النجاح المرحلي حتى مرحلة التخرج، فيكونوا هم تلك المخرجات الضعيفة التي أفرزها التعليم العام بداية وتم استكمالها بالتعليم الجامعي.

وإذا ما نظرنا إلى الآلية التي يتم من خلالها تعيين المعلمين والمعلمات نجد أنها لا تخضع إلى مفاضلة علمية حقيقية وشفافة ومهنية بحيث يمكن من خلالها فرز المعلم والمعلمة الأكثر جدارة وأهلية لممارسة مهنة التدريس، وحتى مع اختبارات القدرات للمعلمين والمعلمات، فالعملية تحتاج إلى اختبار مهني عملي وتطبيقي يشرف عليه نخبة متميزة من المعلمين والمعلمات بعيدا عن المحسوبية وغيرها، بحيث تستبعد المستويات التي لا تكون صالحة للتعليم بمختلف قدراتها ويتم تعيينها في وظائف أخرى غير التعليم كموظف إداري، هذا بالإضافة إلى أهمية الاستناد إلى الدورات التطويرية المستمرة لجميع الأطراف (المعلم، والمشرف التربوي، والإداري )كآلية أساسية يتضمنها النظام التعليمي، بما يمكن به الارتقاء بالتعليم ومضمونه المهني على الأقل، وذلك ينطبق بالطبع على المتعاقدين من غير المواطنين بحيث يستبعد الكثير ممن تم التعاقد معهم وهم دون المستوى المطلوب الذي نطمح إليه للارتقاء بالتعليم وأدائه ومضمونه.

ولما كان التعليم العام بداية والتعليم الجامعي تاليا هما المؤسسة التربوية والمعرفية التي منها يتخرج المعلم والمهندس والطبيب والقانوني والمحاسب، وغير ذلك من التخصصات المختلفة، فتمثل مخرجاتها اللبنات التي تبنى بها أركان الوطن، فإن صلحت أثمرت، وإن خابت حصدنا الخسارة والإهدار في مواردنا البشرية، لذلك فإنه حري بنا الاهتمام بالتعليم ومنسوبيه بكافة مستوياتهم وتخصصاتهم، فالتوطين العام دون انتقائية يمكن تنفيذه في المولات على سبيل المثال، ولكن التعليم يختلف تماما.

وبالإشارة إلى ما نسب لوزارة التعليم في الإثنين 20 رجب 1438، حول التصريح الخاص بالتوجه نحو سعودة جميع معلمي الرياضيات بنهاية العام الدراسي الحالي 1437/ 1438، وإنهاء عقود جميع الوافدين المتعاقدين لهذا التخصص، وذلك بعد ورود بيانات السعوديين المتقدمين للوظائف التعليمية في تخصص الرياضيات، فإننا نؤكد على ما تم توضيحه بأهمية التوطين، وأنه أولوية وطنية لا بد أن تؤخذ في الاعتبار للحد من الإشكالات المترتبة على ذلك، ولكن قطاع التعليم كما تم توضيحه بأنه المؤسسة التي يتم من خلالها تخريج الكفاءات الوطنية فهو أكثر القطاعات أهمية بالتمعن والروية والفرز الدقيق والانتقائية وفق معايير عليمة شفافة وقوية لمن يستحق ممارسة المهنة ومن لا يستحقها، ويشمل ذلك المواطن والمتعاقد على حد سواء، حيث إن الرياضيات تعتبر من التخصصات القوية والأساسية التي يتضمنها تقرير التنمية البشرية الدولي كمعيار قياس لمؤشر الإنجازات في التعليم، وذلك إلى جانب القراءة والعلوم، فإنه حري بوزارة التعليم عدم التعميم والإلزام بإنهاء جميع العقود لغير المواطنين، إلا بعد فرزها والإبقاء على المتميز للاستفادة منه في تدريب وتأهيل الكفاءات الجديدة القادمة إلى الميدان، بالإضافة إلى فرز جميع المتقدمين للمهنة من خلال اختبارات نظرية وعملية تثبت جدارتهم للمهنة، وإلا فيتم توجيههم إلى أعمال أخرى غير ممارسة مهنة التعليم، فمن هنا نبدأ بإصلاح مستوى منسوبي التعليم وتحسين أدائهم، ومن خلال التدريب والمتابعة والتقويم المستمر يمكن تثبيت ومكافأة من يستحق، واستبعاد من لا يستحق إلى وظيفة أخرى غير التعليم، وذلك المنهج يمكن تنفيذه بصرامة في التعليم والصحة فقط، وغير ذلك من الوظائف يمكن أن يوظف فيها المواطن، سواء بالإحلال التام إذا توفرت الكفاءات المؤهلة علميا لأنها بالتدريب والخبرة أثناء العمل يمكن الارتقاء بها وبأدائها، أو الإحلال الجزئي بحيث يمكن الإبقاء على غير المواطنين من المؤهلات العليا المتميزة والمهارات المتفوقة فقط، والتي يمكن الاستفادة منها في تدريب وتأهيل المواطن للعمل الميداني بعد تأهيله بالطبع علميا، أما أن يستأثر المتعاقدون بالوظائف المختلفة بنسبة 85% (2016) في القطاع الخاص من المؤسسات والشركات الكبيرة والصغيرة وبتخصصات مختلفة، بينما يوجد من المواطنين من هم أكثر كفاءة وأهلية من المتعاقد الذي يتمسك به القطاع الخاص من مختلف المستويات ولأسباب مختلفة، فهذا غير مقبول إطلاقا وليس فيه اعتبار للمسؤولية الاجتماعية والوطنية نـحو الوطن بمواطنيه الذين بهم يتحقق الازدهار والنماء، وبسواعدهم يبنى الوطن.