ضبط كثير من الناس أوقاتهم بعد الساعة الثامنة من مساء الثلاثاء لمتابعة لقاء الأمير محمد بن سلمان مع داود الشريان الذي بثته مجموعة من القنوات التلفزيونية بالتزامن، ولكن ماذا كان ينتظر الناس في اللقاء، ولماذا تسمروا أمام الشاشة؟ فقبل نحو أسبوع صدرت الأوامر الملكية التي ترقبها الناس وسط الإشاعات والادعاءات، وفيها كل شيء مما شفى النفوس من تعيينات لشباب من جيل الألفية بدؤوا يأخذون مراكزهم القيادية في الإمارات والوزارات، وإعفاءات ومحاسبة، وفيها منح مالية وبدلات عائدة، وقبل أيام أعلنت البرامج العشرة من حزمة برامج رؤية 2020 في مرحلتها الأولى.

فالناس الذين جلسوا لمتابعة اللقاء لم يكونوا ينتظرون أوامر جديدة، لأنهم يعلمون أنه ليس هذا مكانها ولا زمانها ولا ضمن آليات إعلانها، كما لم يكونوا ينتظرون شرحا لتفاصيل البرامج العشرة، فما أعلن فيه إيجاز شاف كاف لوقته، والتفاصيل ورد أنها ستعلن قبل نهاية الربع الثالث من عام 2017 في فترة الـ120 يوما المعلنة، فما الذي انتظره الناس؟

انطلقت الرؤية منذ أن وجه خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان، مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية برسم رؤية المملكة لتكون بلادنا أنموذجا للعالم على جميع المستويات، فعمل المجلس على الرؤية واطلع عليها الملك ووافق مجلس الوزراء عليها في رجب/‏‏ أبريل من العام الماضي، وهنأ ولي العهد الأمير محمد بن نايف الوطن بإطلاق رؤية السعودية 2030، داعما عضده وأخاه ويده اليمنى محمد بن سلمان، على هذه الرؤية الطموحة، وتحمس الجميع وتحولت البلاد إلى ورشة عمل كبيرة، وعندما جاء قرار إلغاء البدلات والمكافآت والحوافز قبل 7 أشهر تحول الحديث عن الرؤية وطموحاتها إلى حسابات الربح والخسارة، وماذا نقص من رواتبنا والكساد الذي تم بعد ذلك في دورة الحياة المالية وغيرها، وتكلم الجميع؛ الكتاب في كتاباتهم والمسؤولون في مكاتبهم والناس في مجالسهم بين مبرر ومدافع وساخط ومتبرم ومادح ومنتقد لأهداف وغايات مختلفة من ناصح مشفق ومؤمن بالإجراءات ومتحمس للإصلاح، ومتضرر غاضب وباحث عن مكاسب جماهيرية ونجومية، ومغرض اتخذها وسيلة للنيل من الدولة عبر استياء المتضررين والطائرين في العجة.

انتظر الناس بعد الثامنة كي يستمعوا إلى عراب الرؤية، رئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، بعد عام مالي عصيب انتهى بأن نسبة العجز كانت أقل مما توقعه الآخرون إشفاقا أو شماتة، وتحقق في الربع الأول من هذا العام إيراد أكثر من المتوقع، وانخفض العجز 44% من خلال الإيرادات النفطية وغير النفطية وعوائد صندوق الاستثمارات العامة، لم يكن الناس ينتظرون فقط المعلومات، فكثير منها معلن، وإنما كانوا يريدون سماعها من محمد بن سلمان، ويريدون أن يروا محمد بن سلمان وهو يتكلم، يريدون أن يروا إيمانه بالرؤية والثقة في تحقيقها والإصرار على مواصلة السير عليها، ليس بالكلمات التطمينية الإنشائية، وإنما بلغة الأرقام الواضحة السهلة التي يحسبها كل واحد منا كما يحسب المال الذي سيدخل إلى جيبه وما ينصرف منه وما سيجني أطفاله الصغار عندما يكبرون في 2030 بعد 13 عاما.

منذ أسابيع وأنا أقرأ تقارير سياسية واقتصادية عن فنزويلا الدولة التي ملأت العالم ضجيجا بسياسة هوقو شافيز ورحلاته المكوكية وهو يقارع أميركا ويسبب لها صداعا نصفيا، ومقابلاته وتحالفاته مع صدام وكيم إيل سونج وابنه والقذافي وكاسترو وغيرهم، فكانت فنزويلا ملء سمع العالم وبصره، وكان نفطها وثروتها مسيلين للعاب الدول والرؤساء والشعوب، ثم جاءت الأزمة النفطية عليها كما جاءت علينا وعلى آخرين، ولأنها كانت تدار بعقلية الفرد ومغامراته ومزاجه الشخصي، تحولت فنزويلا بين ليلة وضحاها إلى دولة تعصف بها الأزمات والديون والاضطراب السياسي، والقادم أسوأ، وخذ بعد ذلك الدول النفطية من ليبيا والجزائر والعراق وإيران وروسيا ونيجيريا وغيرها، وضعها في سلم تراتبي وفق مؤشرات الاستقرار السياسي والأمن ومؤشرات الاقتصاد الرئيسية، التضخم والاستثمار والبطالة والنمو، وانظر أين تقع دولتنا في السلم بين هذه الدول، وأين ستكون -لا سمح الله- بدون قيادة رشيدة لزعيم سياسي محنك وأمن يضرب بأطنابه على أرجاء الدولة، ورؤية مستنيرة إصلاحية شفافة.

وجرت العادة أن تمر الأزمات بالدول، فيأتي البنك الدولي ليضع اشتراطات وحلولاً من الخارج، وعند الالتزام بها يثور الوضع في الداخل، غير أننا في بلادنا جمعنا رؤيتنا بأنفسنا وبرؤى أبنائنا وظروفنا التي نعرفها، مستفيدين دون شك من أفكار وتجارب ومشورة الآخرين، ولكنها في النهاية رؤية السعودية وليست رؤية البنك الدولي، ولذلك جاء البنك الدولي تاليا للرؤية، فذكر في تقريره الأخير التوقعات في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والباكستان وأفغانستان والتحديات التي تواجهها هذه الدول وما عليها أن تفعله، فيما أشار إلى ما فعلته السعودية وبعض دول الخليج -وليس ما يجب عليها أن تفعله- من تطبيق خطط التنوع الاقتصادي لتقوية المرونة الاقتصادية، مشيرا إلى أن أبناء الطبقة المتوسطة في السعودية، وغالبتيهم موظفون في هيئات ومؤسسات حكومية ومتعودون على المعونات الحكومية السخية، أصبحوا أكثر وعيا وحرصا في إنفاقهم، ومن المتوقع أن تؤدي إعادة البدلات للموظفين إلى تعزيز إنفاق المستهلك في إحياء النمو في السعودية.