كان رحيل الفنانة السورية نجاح حفيظ قبل أيام نهاية حزينة بعنوان «الموت يغيب»، كانت الشخصية التي عرفت بها هي شخصية فطوم حيص بيص، المرأة الحاضرة القوية، وفطوم تصغير فاطمة والحيص والبيص في اللغة تعني الشدة والاختلاط، وكأن هذا الاسم اختير لها بذائقة تتعامل مع اللغة بحساسية عالية، وربما تعمدت أن تبتعد عن الألقاب المألوفة.

المساحة التي احتلتها من وجدان المشاهدين العرب للمسلسل الشهير صح النوم، والذي كان يلقى قبولا أثناء عرضه لدرجة خلو الشارع من المارة في سورية، وفي الوطن العربي، كانت فطوم تصافح أذن المستمع العربي برقة المفردة الدمشقية وهي تكسر الراء وترققها في قولها أو تكرارها لكلمة «رجاء»، وترسم صورة للمرأة التي رآها الرجل الشرقي تمثل التمنع والقوة.

هذا مدخل وذكر مستحق لفنانة رسمت في حضورها في المسلسل الفرح، وجعلتنا في حيرة أمام تقلبها بين قوة تجابه المكائد والخداع الذي يخلقه غوار الطوشة، ورقة أمام شخصية بطل وكاتب المسلسل الراحل نهاد قلعي «حسني أفندي» برؤية خلدون المالح المخرج رحمهما الله. وما دمنا في الشام فهناك عبارة تنسب لنزار قباني الشاعر الدمشقي يقول فيها: «أكثر ما يثير استغرابي في بلادي أن تأتي النساء ضد حقوق النساء!» المرأة المتمردة ليست قضيتي هنا فالتمرد أو التنمر سلوك يكشف عن خلل ما، أو ربما هو ردة فعل لحرية غير مضبوطة أو ظلم يفقد المرأة الاتجاهات.. وقول نزار عبارة تختصر الطريق بين قوة المرأة التي جبلت على القوة والعمل والعطاء، وقوة المرأة المضادة السلبية، التي تختار الوقوف ضد الحق بدلا من الوقوف مع مطالبة إنسانية لابنة جنسها!

مؤخرا أغرب المفارقات التي أثارت الرأي المعتدل الداعم لمطالبات النساء كان أن تأتي امرأة غير محجبة وتعيش خارج البلاد وتمارس كل حرياتها وتتكلم منتقدة امرأة تسير في الشارع بحجابها، وترى أن مطالبتها بأي موضوع فضيحة! الطريف أن المعلقين عليها يرون أن نمط حياتها هو الأولى بالنقد لأنها مختلفة تماما عن المجتمع الذي تنتسب له وتتحدث باسمه. هذا النموذج غيض من فيض نماذج تصافح أبصارنا كلماتهن، وأستطيع وصفهن بالتناقض، فهذا يشبه أن أكتب مقالا أطالب الكاتبات فيه بالتوقف عن الكتابة لأنها لا تليق بالمرأة! هذه مفارقة أصبحت سمة -سأبتعد عن نعتها بأنها خصوصية عامة- ولكنها خصوصية خاصة لنساء يطالبن النساء بالقرار في البيت، وألا يخرجن من بيوتهن، بينما تتعجب حين تعرف أنهن جربن كل أنواع الانطلاق المتاحة للنساء، بل وابتكرن حضورهن وعرفن كأسماء تذكر فتعرف، فتراها حاصلة على شهادة الدكتوراه، وربما عائدة من الابتعاث أي الغربة عن الوطن وتعمل أكاديمية وتمارس الدعوة للقرار في البيت من مقعدها في السيارة عائدة من آخر فعاليات يومها الحافل!

ولا عجب في الحياة من وجود المتناقضين، لكن الأعجب قبول المؤيدين لهم بما يرددونه بطريقة ساذجة لا تحتكم للعقل. امرأة أخرى وفي الأشهر الأخيرة كانت تمثل الدرة المصون أكثرت من المقاطع الساخرة واتجهت للتنظير المضاد أيضا لحق المرأة! هناك من يظن أن المناهضة النسائية لحقوق المرأة خلفها رغبة بتولي منصب أو الحصول على مكانة معينة، وأقول لمن تبحث عن منصب قادم، العرب تقول: الصدر حيث يكون الصدر، فالكراسي تضاف لأصحابها ولا يضاف للكرسي ويعرّف به إلا خامل الذكر والفعل! مع القرار الحكومي الأخير الداعم لمطالبات إسقاط اشتراط الولي في المعاملات الحكومية التي لا ضرورة لوجوده، والمطالب بالرفع عنها أتمنى من المعترضات -وحرية الرأي مكفولة لنا جميعا- أن يبحثن عما يخفف العبء على غيرهن من النساء ولا يبقيهن تحت سلطة غير فاعلة إلا بالاعتراض أو الابتزاز. أما من تطالب بقضية وتتعرض للمساءلة من أجلها أو تحاسب عليها هي أفضل ممن ترفض حق الأخريات لأن وضعها الاجتماعي سمح لها بهذا، وإن كنتن تحمدن الله على وضع ممتاز وتسعين لمنصب، فرجاء لا تعارضن من تطالب بحقها في الحياة.