من غير المتوقع أن يقفز العرب قفزات فكرية وعلمية وثقافية كبيرة ونوعية في القرن القادم لعدة أسباب يتمثل أهمها من وجهة نظري في إهمال العقل، هذا المنحة الإلهية التي رفض العرب والمسلمون استثماره منذ قرون تجاوزت العشرة، والذي تسبب غيابه في انحدار مستوى الثقافة والتعايش والابتكار وتصدر العالم وغيرها كثير، وسأتحدث هنا عن عداء العقل والمذهبية التاريخي، وما نتج عنه من مآس إنسانية.
إذ في كل زاوية من حولي أشاهد موقفا محزنا في كل ما ارتبط بشيئين اثنين لا ثالث لهما (العقل والمذهبية)، فعلى طول التاريخ الإنساني منذ ظهور المذاهب الدينية، لم تنقطع المعارك بينهما، حتى وصل الأمر بتسبب الصراع إلى حدوث كوارث على المستوى البشري والإنساني، وانتشار الأحقاد والكراهية، وسفك الدماء، والقطيعة الأخوية والمجتمعية، والسعي الحثيث إلى سحق الآخر المختلف مع أو عن.
لقد حل الصراع الدائم بينهما مكان مكارم الأخلاق التي تستند إلى الوسطية، والبحث عن الحلول ونقاط الالتقاء، وتدعو إلى الجلوس إلى الطاولات المستديرة، وهي النقاط التي لم تجد لها مكانا في الصراع بينهما على الإطلاق، لأن المذهبية التي تقع إلى أقصى اليمين ترفض الخروج من مخبئها أو طرح الأفكار حول أطروحاتها أو ما تنادي به أو منشئها، ولا ترى خارج نمطيتها وأسسها شيئا ذا قيمة أو ما يمكنه أن يعادل صوابها، بينما العقل يرفض أن يوضع في هذه الزاوية الضيقة ويراها حصارا ترفضه آلية التفكير والفكرة ذاتها.
ويعد رفض العقل للمذهبية طبيعيا جدا بناء على تشدد المذهبية وأطرها، بل هو رفض لازم تفرضه آلية التفكير التي تنطلق من مبدأ المنطق والحرية والفضاءات الواسعة.
في الواقع لم يمزق الأمم والشعوب في كل أرجاء هذا العالم شيء مثلما فعلت المذهبية والمذاهب الدينية عبر تاريخ الإنسان، فقد قسمت الناس إلى فئات ترتكز في علاقتها وتقييمها الآخر من منطلق توجهه واتباعه لمذهبه الديني، فتغلّب التحزب للمذهب على التعنصر للقبيلة والعادات والتقاليد ومناطق الوسط المتصالحة، ليشكل ذلك أحد أبغض أنواع العنصريات التي عرفها البشر في تاريخهم.
وبنظرة سريعة داخل الديانات الإبراهيمية الثلاث (اليهودية والمسيحية والإسلام)، سنكتشف كيف تحولت شريعة واحدة إلى عدة شرائع، وكيف تحولت الشرائع لاحقا إلى عدة مذاهب، وكيف تشكلت الطوائف داخل المذاهب، فاليهودية ما زالت تعاني السؤال التاريخي المعقد (من هو اليهودي؟)، لأن حاخاماتها يختلفون على تعريف اليهودي حتى اليوم، ويقدم كثير منهم ما جاء من منقولات شفوية في (التلمود) وهو ما تم تفسيره من قبل حاخاماتهم ونقاشاتهم حول مسائل تشريعية في الفقه والوعظ والحياة الاجتماعية وحتى ما يتعلق بالعلوم، على النص التوراتي. وفي المسيحية انقسمت الكنيسة إلى أربعة مذاهب هي الكاثوليكية، والأرثوذكسية الشرقية، والأرثوذكسية المشرقية، والبروتستانتية، وهي أكبر الفرق المعروفة حاليا، ناهيك عن الانقسامات داخلها، وقامت على إثر هذه الاختلافات حروب طاحنة أودت بـ40% تقريبا من سكان أوروبا بين عامي 1618 و1648 فقط، ناهيك أيضا عن ما قبل ذلك وما بعد...
أما في الإسلام فنحن على مقربة جدا من الـ73 فرقة التي أخبر عنها الرسول، صلى الله عليه وسلم، وكلنا يعلم عن تعدد المذاهب والفرق والجماعات والطرق وغيرها، وهذا ما يظهر على السطح حتى الآن...
كل ذلك حدث في فترة وجيزة من عمر الإنسان نتيجة تدخله غير الموفق في تفسير كثير جدا من نقاط التشريعات الإلهية في النصوص، بسبب حضور الأطماع والأحقاد الشخصية، والنزعات القبلية، والاستحواذ وحب السيطرة.
وتسبب تقديم الأطروحات الخاصة بـ(تفسير) النصوص لاحقا، إلى درجة موازاتها بالنص الإلهي الأصلي ذاته عند بعض الفرق.! وهي النقطة العمياء التي تقوم عليها المذهبية والطائفية، والتي تم استثمارها من قبل الانتهازيين من الساسة وغيرهم من بعض رجال الدين عبر التاريخ.
لقد عجزت المجتمعات العربية والإسلامية تحديدا عن استثمار مشاهد الخلاف المذهبي في كل من اليهودية والمسيحية لتتجنب خلافاتها، وسقطت في نفس المستنقع القديم ذاته، بسبب تغييبها العقل وإعماله في مشهد اللوحتين المؤلم لما مرت به اليهودية والمسيحية، وفضلت أن تخوض معركتها الخاسرة سلفا، ونتائج الصراع الديني المذهبي في العالمين العربي والإسلامي اليوم تحكي قصة عداء العقل والمذهبية.