معظم التعريفات التي تتناول كلمة الجامعة تشير إلى أنها مجتمع معرفي تفاعلي منشغل بواجبي التعليم والبحث عن الحقيقة، ومن حيث كونها أرفع المؤسسات التعليمية فإنها المكان الموكل به عملية صناعة الأجيال، واقعا ومستقبلا، وتغذيتها بالقيادات المعرفية في كافة المجالات، وكل ما يتعلق بهذه الصناعة التنويرية، من التأثير في الدولة ومؤسساتها من جهة، والمجتمع وشرائحه وأفراده من جهة. في الكتيب الجيد الذي صدر عن وزارة التعليم العالي في السعودية عام 2014 بعنوان «الوظيفة الثالثة للجامعات»، ورد التالي: «أعادت الجامعات اليوم النظر في دورها في المجتمع وعلاقتها مع مكوناته المتنوعة، وهذه العلاقة بين التعليم العالي والمجتمع تمثل، بصورة عامة، الوظيفة الثالثة للجامعات». كانت هذه النقطة بالتحديد هي مدار الحديث الذي دار مع نائبة رئيس جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية «كاوست»، الدكتورة نجاح عشري، قبل أسبوعين، في بادرة كريمة منها لزيارة الجامعة والتعرف عليها.

تذكرت حينها، ونحن نجوب مقار الجامعة الضخمة، تجربة شخصية عشتها في عام 2012. كنت تلقيت دعوة من جامعة «أيوا» الأميركية، وكتبت عن مشاهداتي في تلك التجربة في حينه. كنت فردا من واحد وثلاثين كاتبا وكاتبة، من ثمان وعشرين دولة، حول العالم، من كوريا واليابان، وحتى فنزويلا وتشيلي. وبالطبع إلى جوار من التقيناهم من المؤلفين الأميركان، من مختلف الأعمار والأهميات. استمرت الدعوة طيلة شهرين، بتغطية كاملة، أما فعالياتها اليومية فقد كانت مقسومة ما بين مرافق الجامعة وطلابها، وما بين الأماكن العامة في المدينة وسكانها. هذا البرنامج الذي تقوم به جامعة «أيوا»، وهي بالمناسبة ليست من الجامعات الكبرى في أميركا، كان تلك السنة في دورته السابعة والأربعين، أي أن الجامعة تقوم بهذه المهمة تجاه طلابها ومدينتها وولايتها منذ عام 1965، وهذا بالمناسبة مجرد برنامج واحد، من عشرات البرامج على امتداد العام. أستحضر هذا المثال الفاعل والمؤثر، من بين عشرات الأمثلة، من دور الجامعة ووظيفتها الأهم، الوظيفة الثالثة، حسب تسمية تعليمنا العالي، وأنا أتساءل إن كنتم تعرفون جامعة في الوطن العربي كله عموما، وفي السعودية بشكل خاص، تقوم بمثل هذا، ولو على نحو داخلي محض! من تتسنى له الفرصة ويتجول في جامعة مثل كاوست، بالرغم من حداثتها، فهي في السنة التاسعة منذ تأسيسها، سيرى بعينيه الإمكانات والقدرات والمنجز الذي يستحق هذا المجتمع أن يكون أول المتأثرين بها، وبطابعها ونمطها المفتوح على العالم، وقد كان في حديث الدكتورة نجاح، وما أشارت إليه من تطلعات الجامعة ورؤيتها وواجبها، ما تنعقد عليه الآمال، فلننتظر.