ليس للإسلام مشكلة مع أحد، وليس لأحد مشكلة مع الإسلام. لكن للمسلمين مشاكلهم مع بعضهم ومع الآخرين، وللآخرين مشاكلهم مع المسلمين.

في العقود الأخيرة عانى المسلمون من بعضهم وعانى منهم الناس، ذلك أن حتمية التاريخ لا بد أن تسري على الجميع، وما كان مسكوتا عنه بالأمس هو اليوم مكشوف، وما كان لا يضرّ في الماضي هو الآن يضرّ، وما كان خامدا بالأمس ثار اليوم.

خلال 1400 سنة ومع كثير من الدول الإسلامية المتتابعة أضاف المشتغلون على الدين، لأسباب مختلفة، آراء وتفسيرات دينية، بدت بسيطة في وقتها وذات غايات حسنة، كما تصورها أهلها، لكنها اليوم صارت معضلات متفجرة أمام المسلمين أنفسهم.

حاول بعض المفكرين الإسلاميين وبعض الفقهاء المعاصرين لفت الانتباه إلى خطورة تلك المتفجرات النائمة في التراث، لكن لا أحد يسمع لهم، لأن لا سلطة لهم على الناس، بل إن الناس ينبذونهم ويتهمونهم بشتى التهم التي تصل إلى الاتهام بالخروج عن الملة أو الارتداد عنها. فمما يعقد الأمور مفاهيم مثل «الأمة»، و«وحدة الأمة»، و«الخلافة»، دون اعتراف بأن العالم تغير وصار كيانات سياسية متعددة.

صحيح أن السياسيين هم أكثر من يفهم الواقع السياسي اليوم، لكنهم لا يستطيعون، تحت ضغط العامة وضغط المفاهيم السابقة ولا يريدون للعامة أن تفهم مثلهم، لأن ورقة «العامة» ورقة ما زالت رابحة سياسيا منذ ألف سنة حتى اليوم، وليس من سياسي يغامر بالتفريط فيها.

الشعوب الإسلامية كثيرة، ولكل شعب رايته ونظامه ويعيش واقعه اليومي، فإذا خلا إلى واقعه الوجداني عاش واقع الخلافة والأمة والأوهام الكبرى المحفوظة في وجدانه التي شحنه بها شيوخه وساسته لحين طلبها.

اليوم لكل بلد إسلامي مؤسساته الفقهية التي يسير حسب إرشاداتها، وهناك مؤسسات فقهية تبدو كأنها عامة لكل المسلمين (الأزهر، مجمع الفقه الإسلامي، اتحاد علماء المسلمين، اتحاد حكماء المسلمين)، ولا تستطيع أي من هذه المؤسسات أن تغامر، منفردة، بمواجهة المعضلات التي صارت أسلاكها مكشوفة بين المسلمين بعضهم وبينهم وبين بقية العالم، ولا تستطيع كل هذه المؤسسات مجتمعة أن تغامر بمواجهة وعلاج هذه القنابل الموضوعة من زمن قديم في أوراق التراث، بل إن تلك المؤسسات تشكل سدا مخيفا أمام مبادرات أفراد الفقهاء.

كان محمد أبوزهرة عضو مجمع البحوث الإسلامية وأحد أعلام الفقه المعاصرين يرى أن عقوبة رجم الزاني ليست من الإسلام، لكنه، كما يروي يوسف القرضاوي، لم يستطع البوح بهذا الرأي لا في كتبه ولا في الأزهر ولا في المؤتمرات الفقهية التي يحضرها، لكنه، بعد كتمان عشرين عاما، قرر أن يفعل ذلك، في أحد المؤتمرات، في آخر حياته حتى لا يموت دون أن يصرح به، ومع ذلك لم يسلم من هجوم زملائه عليه.

إنني أعتقد أن الفقهاء الأفراد قادرون على تعليق الجرس وعلى الاقتراب من صواعق القنابل أفضل وأشجع من المؤسسات، لأن المؤسسات يحكمها نظام وعليها التزامات سياسية لحكوماتها، بينما الفقيه الفرد عليه التزام واحد فقط هو التزامه أمام ضميره.

سأضرب مثالا بأربع قضايا تشكل تحديا أمام المسلمين:

أولا: قضية الدولة القطرية المعاصرة وتعارضها مع القول بالخلافة وتحكيم الإسلام، وهذا القول أنتج القاعدة، وداعش، وبوكو حرام، وسينتج غيرهم، وهي فكرة مدمرة، وباستمرار، للدولة وللعالم وتعتمد على نصوص تراثية. فهل هي من الإسلام؟.

ثانيا: قتال الكفار حتى يسلموا أو يدفعوا الجزية، وهي، بهذا الجفاف، فكرة مدمرة للسلام في الأرض، آمنت بها ونشأت عليها التنظيمات المتطرفة وتعتمد على نصوص تراثية... فهل هي من الإسلام؟

ثالثا: هل الدين، بما هو دين، شأن فردي أم شأن جماعي وسياسي، لا يقوم إلا بدولة أو جماعة؟ وما هي علاقة الجماعة والدولة بدين الفرد فيها؟

رابعا: قضية الردة وحرية الاعتقاد.. هل هي مكفولة في الإسلام أم لا؟

بسهولة يمكن أن نلاحظ أن هذه القضايا متشابكة ولا يمكن حل واحدة وترك الأخرى، فالرابط بينها واضح لا يحتاج لاستنباط، فهو الدولة ودين الفرد وحرية الاعتقاد.

إن التحدي حاضر ويزيد كل يوم أمام الفقهاء المسلمين، ومن الخذلان أن يتأخروا عن خوضه.

لا يمكن أن يكون الدين إلا رحمة للعالمين جميعا.