عندما لا تحركنا سوى الإشاعات والأخبار المثيرة، عندما نتفاعل مع القضايا من خلال الظاهر فقط، ولا نتعمق لنصل إلى جذور المشكلة، عندما نهتم بالأعداد فقط من منظور ربح أو خسارة، عندما نخضع لرأي المجاميع دون دراسة أو تحليل أو حتى تأكد، عندما يكون التمييز بالكم وليس بالكيف، عندما تكون السمة الرئيسية في الرأي هي التقلب، عندما نتعامل مع الأعداء كالموضة، كل فترة نفصل عدوا جديدا، عندما نصادق للمصلحة ونعادي للمصلحة، عندما نعتبر الاستغلال والغش والتعدي شطارة والصدق والأمانة غباء وضعفا، عندما نتلاعب بالألفاظ والمفاهيم لتتماشى مع غاياتنا، عندما نفرض الرأي على أنه حقيقة والفرضية على أنها واقع، عندما لا نفكر بتأثير أي قرار نتخذه إلا من خلال المنفعة الشخصية، عندما تكون مشاعرنا عرضة للاستغلال من قبل من يعرف كيف يحرك أشرعتها، عندما يطربنا النشاز وتأسرنا السخافة والابتذال، وعندما لا نفكر بتأنّ وعمق، نكون يا سادة يا كرام مجتمعا سطحيا بامتياز!

صاحب الفكر السطحي هو ذاك الشخص الذي يفتقر إلى العمق الفكري والفضول، تعود على ألا يُعمِل عقله وإن فعل فيكون من أجل الفائدة الآنية، بمعنى أنه إن ضغط زرا هنا سيرى الناتج هناك، وبهذا يتوقف اهتمامه فيما سيأتي بعد ذلك من تأثيرات! إنه ذاك الشخص الذي لا يفكر بما وراء اللحظة أو أبعد من ذاته؛ دائرة اهتماماته! يتعامل مع «نحن» كتابع يوهم نفسه بأنه قادر، بينما حين يواجه منفردا يظهر عراء فكره، فيلجأ إلى الهجوم المعاكس والشخصنة، يتسرع في الحكم، ويأخذ بالقشور، بالنسبة له الظاهر كالباطن، وما خفي يتبع فقط تفسيره للنيات، لا يتقن كيفية اتخاذ القرار، فليست لديه آراء شخصية عن أي شيء بالطبع بما أنه تابع، لا يغير طريقه أو رأيه إلا إذا غير القائد رأيه أو طلب منه ذلك، توقعاته غير واقعية لأنها غير مدروسة، وعندما لا تتحقق يشعر بخيبة الأمل، وقد يتحول إلى شرس ومعتد، أما تقدير الذات فتجدها منخفضة لديه، لذا يستطيع أي شخص متمكن من السيطرة عليه والتحكم به، وإن كانت لديه موهبة ضاعت مع استغلال الآخر له؛ تماما كالفنان الذي يطربه تصفيق الجمهور أو الأديب أو الكاتب الذي يشده إطراء المتابعين، وبدلا من العمل على صقل الموهبة ينزل إلى مستوى يرضيهم، وهنا لا أعني أن السطحي لئيم أو خبيث، بل ساذج يستحق الشفقة!

لكي أوضح لكم لماذا يستحق الشفقة أعطي مثالا من قصيدة الشاعر الهندي فيكرام سث بعنوان «الضفدعة والعندليب»، ملخص القصيدة أنه كان هناك ضفدع يسكن شجرة في الغابة، وكان يغني بصوت قبيح إلى درجة أزعج بقية مخلوقات الغابة، ورغم جميع الطرق التي أعربوا فيها عن كرههم لصوته استمر في الغناء، حتى جاء يوم هبط فيه على الشجرة عندليب، وأخذ يغني بصوت شجي شد الجميع ليقتربوا منه ويصغوا إليه، وعندما انتهى صفق الجميع بفرح، وطلبوا المزيد إلى أن طلع الفجر، وفي اليوم التالي اقترب الضفدع من العندليب، وأخبره بأنه مالك الشجرة، ثم تفضل عليه بتقديم رأيه في صوته الذي بدا له أنه ليس سيئا، ولكن يحتاج إلى تمرين، لأنه يفتقر إلى القوة، وعرض عليه أن يدربه، فصدق العندليب أنه ذو خبرة وعلم، وفرح بأنه سيتتلمذ على يديه، ولكن هنا طلب الضفدع الثمن، وهو أن يغني العندليب كل ليلة، ويجمع هو المال من المستمعين من سكان الغابة، وغنى في تلك الليلة، وعند الفجر أخبره الضفدع بأنه يحتاج إلى تدريب أكثر في النهار، رغم أن السماء كانت ممطرة، وشعر بالتعب والبرد، مما أثر على صوته، فأصبح أجش، لكنه غنى في الليل، وتدرب في النهار، والضفدع يجمع المال، ويستمر في تعليقاته بأنه يحتاج إلى المزيد من التدريب، وهكذا حتى ضاع صوته، فلم يعد أحد يأتي ليستمع إليه، فغضب الضفدع، واتهمه بأنه لا يبذل مجهودا كافيا، خاف العندليب من ضياع ما كان يسرّه من صدى تصفيق المستمعين الذي اعتاده، وأخرج صوتا تفجرت معه الدماء في عروقه ومات، لم يتأثر الضفدع، بل أخذ مكانه السابق، وعاد إلى الغناء وحيدا، وعادت مخلوقات الغابة تتذمر! الآن من الساذج والسطحي هنا؟ من الذي ضيع موهبته بالإصغاء إلى من ليست له معرفة أو اختصاص؟ من الذي لم يثق بنفسه وسلمها إلى من يجهلها وقام باستغلالها؟ ومن اللئيم الذي شعر بالغيرة ممن أخذ مكانه الذي لم يكن يستحقه أصلا؟ من الذي استغل حتى قضى على صاحب الموهبة؟ تماما كمن لا يعرف قيمة نفسه، وبدلا من العمل على صقل مهارات التفكير لديه يسلم عقله إلى من يستغله، وإن لم يقض عليه استخدمه ليؤذي غريما له، أو لمصلحة خاصة له!

وهكذا هو المجتمع السطحي الذي رغم الموهبة والطاقات العظيمة التي يمتلكها يقذف بها إلى غياهب الجهل، ويسير في ظل اللئام الذين يستخدمونه في تحقيق مصالحهم حتى وإن كان الثمن تدميره! يطرب بكل المفردات التي تنفخ فيه شعور الطيبة والعظمة والتميز والتفرد، فيبقى كما هو إن لم يتراجع ويخسر، وما هي سوى أصابع تلعب على أوتاره بألحان شاذة، تجعل بقية المجتمعات تنفر وتبتعد إن لم تأخذه كمثال على التأخر والرجعية! والسؤال هنا هل نحن مجتمع سطحي؟ الإجابة عندكم، مهلا لا نتسرع في الإجابة ولنفكر وندرس ونمر على جميع وسائل التواصل الاجتماعي، ونحلل نوعية المعلومات التي نتبادلها والحوارات والنقاشات التي نتناولها، والردود ونوعية الاهتمامات ومستوى وتنوع الثقافة، عندها يحق لنا أن نحكم وليس بالضرورة أن نصل كلنا إلى نفس الحكم، لأنه في الغالب كلّ سيذهب ليجمع المعلومات من حيث تعود أن يبحث، والأمر لا يتعلق بجمعها فقط، بل بالقدرة على دراستها وتحليلها وقياسها وإن أمكن تقويمها، إذًا التفكير العميق والناقد هو المطلوب؛ فكيف نفكر أمر بالغ الأهمية لأن أفكارنا تتحكم بمزاجنا، مواقفنا، كلماتنا، تصرفاتنا، وأعمالنا، إنه أساس كينونتنا، بالمقابل عندما يكون التفكير سطحيا تنتج عنه حياة سطحية بلا ركيزة أو أساس، وبدلا من الحلول تتكاثر القضايا وتتعقد المشاكل! في النهاية نحن ليس فقط ما نفكر بل كيف نفكر.