فوجئ المجتمع السعودي في مواقع التواصل الاجتماعي بمقطع فيديو، يتضمن قيام أحد الشباب بصفع عامل على وجهه، بسبب إفطاره في نهار رمضان، مما أثار موجة كبيرة من السخط والغضب من هذه الفعلة الشنيعة.

والجميع -دون استثناء- استنكر تصرّف الشاب مع العامل بهذه الطريقة الهمجية، ولكن اللافت إلى النظر في هذه القضية أن البعض التمس عذرا للعامل بقولهم: «قد يكون غير مسلم» أو «به مرض» مما أجبره على الإفطار، وبالتالي لا يصح التعامل معه بهذه الطريقة.

أما البعض الآخر، فقد كان أكثر اعتدالا وقال: «الشاب قام مقام الدولة: الشرطة والقاضي والتنفيذ والتصوير والتشهير والنشر»، إضافة إلى أن الله عزّ وجل هو من يحاسب الناس، فلا وصاية لأحد عليهم.

ومما سبق، يتضح أن الجميع يكاد يتفق على أن الإفطار في رمضان دون عذر شرعي، يعدّ معصية، ويستحق فاعلها العقوبة، ولكن من يقرر ذلك هو النظام والقانون، وليس الأفراد، وفي كثير من المجتمعات الإسلامية تطبق عقوبات تعزيرية على المفطر في رمضان لغير عذر شرعي، والعقوبة الموجهة إليه متروكة للقاضي لتحديد الحكم المناسب، وغالبا ما تكون العقوبة بين الجلد والسجن، أو العقوبتين معا، أو الغرامة المالية.

وفي هذا الصدد يقول رجال الدين، إن «من ترك صوم رمضان بلا مرض ولا غرض «أي بلا عذر يبيح ذلك»، أنه شرٌ من الزاني ومدمن الخمر، بل يشكّون في إسلامه ويظنون به الزندقة والانحلال»، ومن هنا يتضح جليا سبب كره الناس للمفطر في رمضان، وكذلك سبب قيام ذلك الشاب بضرب العامل المسكين، فرجال الدين ينطلقون في فتاواهم وأحكامهم من منطلق رؤية قديمة وهي حماية المجتمع «الجماعة» من عدوان الأفراد، ومنع أي إساءة يتعرض لها المجتمع ككل من الفرد، وهذا ما يفسر تصرف الشاب مع العامل في مقطع الفيديو، فحقوق المجتمع هي الأساس والأهم من حقوق الأفراد أنفسهم، والسؤال: من يحمي حقوق الأفراد أمام ظلم المجتمع؟

إضافة إلى ما سبق، هناك ممارسات سلبية أخرى تحدث في الشهر الفضيل، مثل المشاجرات على الطرق أو في الأسواق والمطاعم، فضلا عن حوادث السيارات قبل أذان المغرب، وكأن الناس مجبرون على الصوم.

والسؤال المطروح هنا: لماذا تسوء أخلاق بعض الناس في رمضان، بينما الهدف من الصوم عكس ذلك تماما؟

لقد تحول صوم رمضان إلى مجرد فكرة كامنة في أذهان الناس، انعكست على أفعالهم وسلوكهم على شكل طقوس وتكاليف، دون أن تصل إلى أعماق مشاعرهم ووجدانهم، فأصبح الدين لدى البعض مجرد دين شكلاني لا أكثر، فتحول الصوم من عنصر إيجابي يمنح الفرد الوصول إلى مدارج الكمال والإنسانية والتحرر من قوى الشر والانحراف، إلى قيود تكبل عقل الإنسان وسلوكه في رمضان.

لا شك في أن الصيام ركن من أركان الإسلام، وفريضة من فرائض الله على عباده، ولكن البعض للأسف يقوم بهذا الركن بمجرد العمل بالتكليف والتخلص من العقوبة الإلهية والنجاة من النار وحسب، فعندما نسأل أحدهم: «لماذا تصوم رمضان؟»، تكون الإجابة على الفور «لأن الله سبحانه وتعالى أمرنا بذلك، ومن يعص الله يدخل النار، والدليل على ذلك قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»، والتقوى هنا معناها أن تجعل بينك وبين النار وقاية!

وعلى هذا الأساس، ينطلق الفرد في صوم رمضان من موقع أداء التكليف لا من موقع تربية النفس وسمو الأخلاق.

يهدف الصوم إلى إحداث تحول روحاني في الإنسان، فخلال الامتناع عن الطعام والشراب والجنس، يؤدي ذلك إلى إحداث نوع من التحكم في الغرائز والشهوات، وبالتالي يشعر الإنسان تدريجيا بأن علاقته بالماديات مثل السلطة والشهرة والجاه، ستقلّ وتذبل في نفسه، وهذا يعني حدوث نوع من التحول المعنوي والنفسي في شخصية الإنسان، وهنا تنمو شخصيته وتصبح أكثر نضوجا وأخلاقا.

فمن الغرائز الطبيعية في الإنسان الأكل والشرب والجنس، والانغماس والإفراط في هذه الغرائز يزيدان النهم والجور والطمع والجشع والتطاول وقسوة القلب. والصيام نوع من التدريب النفسي للإنسان في التحكم في هذه الغرائز، ناهيك عن تحقيق رقة القلب واللين وصفاء الذهن وتهذيب النفس الأمارة بالسوء، الأمر الذي يؤدي إلى سمو النفس الإنسانية والأخلاق وقوة الصلة بالله عزّ وجل، والذي ينعكس في النهاية في تعامل الإنسان مع غيره في مجتمع تسوده المحبة والاحترام.

المجتمعات الإسلامية اليوم بحاجة شديدة إلى الحياة الأخلاقية أكثر من وقت مضى، ومع صعوبة أكثر، ولا أبالغ إن قلت إن بعض المجتمعات تعاني انحطاطا أخلاقيا لأسباب اقتصادية وسياسية، وبالتالي فإن صوم رمضان يعد من أهم الدعامات للسلوكيات الأخلاقية، ولكن للأسف هذه الدعامة مفقودة في الخطاب الديني السائد، فهذا الخطاب يتحمل قدرا كبيرا من المسؤولية في انحدار أخلاق الناس، فالناس في فهمهم معنى الصوم يتبعون ما يحدّثهم به الدعاة والمشايخ عنه، والذين رسّخوا صورة ذهنية جامدة في تصوّر المجتمع عن الصيام، حتى أصبح الفرد لا يتبع سوى العرف الجاري بين مجتمعه أو أهل ملّته، فأصبح النمط الأخلاقي يأتي بدافع الثواب والعقاب وحماية المجتمع، وليس بدافع حب الخير وصلاح النفس وحماية حقوق الأفراد، وهذه من صفات الإنسان الدنيء.