لا يتطلب الأمر أن تبتعث بغرض الدراسة أو تسافر للسياحة أو العلاج كي تدرك أن الصورة من حولك ليست مضبوطة.. أو أن الألوان يسعها أن تغدو أكثر سطوعاً على الأقل. فيلسوف فرنسي ما قال مرة إن "مشكلة كل منا مع الحياة ليست في كونها سيئة.. لكن في أنها يمكن أن تصير أفضل". هذا البحث عن الأفضل هو مبرر تعاسة الكثيرين واكفهرارهم. وهو مبرر انتحار آخرين. وفي سبيل السعي نحو الأفضل يضرب الأب ابنه تحت ذريعة الحب. هل نضرب نحن أوطاننا حين نعلق على أحداثها وظروفها بسخرية مريرة ونتعامل معها بسلبية مفرطة؟ على كل، فعلاقتنا بأوطاننا هي علاقة أبوة معكوسة. نحن ننتسب للوطن فيما هو مسؤول من قبل هل نحن حقاً على ما يرام؟ هل نحن مجتمع بالغ القرب من المثالية؟ أم إن أعيننا وأرواحنا قد اعتادت على التعايش مع الواقع بكل سلبياته ليغدو كل تنبيه لها بمثابة إقلاق قيلولة ثقيلة؟

حين تسافر وحين تتأمل في الأخبار العالمية فإنك تكتسب القدرة على رؤية عالمك بعينين جديدتين. قد تدرك بغتة أنك مخلوق عالمي وأن انتماءك يمتد لما بعد وطنك كذلك. تدرك أن ثمة آخرين يراقبونك وجماعتك بنهم ويسوؤك أن يسجل هؤلاء عليك المآخذ. ربما يسوؤك أكثر أنك أنت بالذات تتعايش مع كل هذه العيوب والأخطاء في سلام تام على الرغم من أن تغييرها ربما لا يكلف أكثر من وقفة جادة من أفراد مجتمعك. أم إن هذا هو الجزء الصعب في الحكاية؟!

(الفَلاحة) مسألة نسبية. فكما أن المملكة تصدرت كافة الدول العربية في عدد طلبات براءات الاختراع للعام الماضي، فإن هذه الدول بالذات تقبع قريباً من ذيل قائمة التنمية بشهادة إحصاءات الناتج المحلي والبطالة، والأمية بشقيها التقليدي والإلكتروني، وطلبات اللجوء والهجرة، وعدد ميداليات الألعاب الأولمبية.

المقارنة تظل ظالمة.. نحن أفضل بمراحل من كافة الآخرين في محيطنا. على الأقل هكذا تشهد أرقام الوفرة وأسانيد التاريخ المعاصر، لكن الخبر السيئ.. الذي من أجله تحرق الأعصاب ويسكب الحبر والدموع هو أننا يسعنا بسهولة أن نتفوق على الباقين.. بما فيهم دول نمور آسيا الواعدة.. وحتى غرب أوروبا. باستطاعتنا أن نغدو بسهولة قوة ضاربة عظمى مؤثرة.. بدون مفاعلات نووية.. بدون تلاعب خفي في سياسات الجيران وبدون ترسانة عسكرية مخيفة. هذا البلد يمتلك كل مقدرات العظمة. ما ينقصنا فقط هو أن نجيد.. كشعب.. استغلال هذه القدرات وتسخيرها.. وهنا مربط الفرس الأعرج.

ليس سراً أن التباكي على الأطلال يظل سمة محلية خالصة. الآن أضيف لها التباكي على الحاضر وتحقير منجزات الجيران. والتشاؤم الذي يفعم كتاباتنا.. كل هذا الكم من التشكي والتبرم بكل شيء.. من إسفلت الشوارع إلى شهادات الجامعات.. هو ليس مجرد نزوات نخبوية عابرة. إنه ليس مجرد ضجيج يصدره بعض ممن أبهرتهم أضواء الحضارة الغربية. تلك التي بتنا نعرفها أيضاً بـ "حضارة المسلمين بلا إسلام"!!

في قاموس المبتعثين.. هناك اصطلاح على شيء اسمه (الصدمة الثقافية المعاكسة). أول تحد يواجهك حين تعود لبلادك هو في إعادة تعلم قيادة السيارة.. وفق الضوابط المحلية. تتعلم كيف تغدو (الحَمولة) هي وسيلتك للوصول عوضاً عن اتباع إرشادات كتيب خدمة العملاء. تتفتح حواسك لكم الإنجاز الممكن تحقيقه.. على كل الصعد.. بالقليل.. فقط القليل من التنظيم، لكن ما سيفجر القهر في روحك.. ما سيحرق الدوائر المنطقية في عقلك هو الحرص من حولك على ديمومة الفوضى كنظام وحيد. لدهشتك تسمع الناس يتكلمون عن (الفوضى الخلاقة) كنظام خاص عتيد.

بين كل من حولنا.. ومن بين كل خصوصياتنا العتيدة.. تبرز واحدة قلما التفتنا لها: مشاكلنا العويصة كلها هي من صنعنا نحن. نحن غارقون في نِعم الوفرة والموارد. تقليدياً فقد بدأنا من الصفر. من مسطح ناصع نظيف جاهز لاستقبال أروع التصاميم. نحن الذين أدخلنا عليه.. برضانا وترصدنا المسبق كل مظاهر العاهة والقبح. نحن الذين شغلنا أنفسنا بكل الترهات والأولويات الفارغة. نحن الذين أورثنا أجيالنا مشاكل أجدادنا.. حتى بعد أن رحل هؤلاء.. ليبقى الأبناء معلقين ضائعين بين استحقاقات مستقبلهم الحقيقية وتصفيات حسابات غيرهم المعلقة في رقابهم هم.

لا يتطلب الأمر أن تقيم خارج الحدود بغرض العمل أو الدراسة لتدرك كم هي مختلطة أوراق همومنا. وكم نحن مبدعون في أن نخلق شيئاً من اللاشيء.. وفي تضييع العمر في إثبات هذه اللاشيئية وفي إثبات أن الهراء هراء.. قبل الالتفات لما هو أهم. صدقاً.. الأمر يتجاوز جلد الذات الصرف.. ويتجاوز عقد السادية وجنون العظمة والخطابات المغرقة في الفوقية الأكاديمية.

حيواتنا قد تكون جيدة.. لكنها يسعها.. حقاً.. أن تغدو ممتازة.. تغدو مثالية، لذا فإننا نقسو على أنفسنا ووطننا أحياناً.