طيلة شهر رمضان الماضي سعدت بمتابعة برنامج النبأ العظيم الذي كان حوارا أداره الأستاذ يحيى الأمير مع الدكتور محمد شحرور. والمفكر السوري شحرور فاز هذا العام وكرّم في معرض أبوظبي للكتاب بجائزة «التنمية وبناء الدولة» عن كتابه «الإسلام والإنسان – من نتائج القراءة المعاصرة».

وكان موضوع الحوار التلفزيوني اليومي هو ما سبق وطرحه الدكتور شحرور من مشروع قراءة القرآن الكريم وفق أدوات معاصرة، وانطلاقا من البحث عن معنى الإعجاز والعالمية والخاتمية الذي بدأه بعد نكسة عام 1967، عندما وقف أمام من يبررون النكسة بتصرفات بعض الناس.

الدكتور محمد شحرور قدم من خلال البرنامج أفكارا مهمة وصل لها من خلال قراءة وبحث في معاني وتفسيرات القرآن، وربطها بواقع الحياة وصيرورة التاريخ والمجتمعات. وبينما كان المحاور الأستاذ يحيى الأمير يمثل الرأي السائد ويعترض على الأفكار المطروحة المخالفة للمألوف كان يؤكد أن ما يطرحه البرنامج هو دعوة للقراءة وليس حتى تفسير، بل محاولة للبحث في بعض القضايا التي تناولها القرآن.

من الأفكار التي قدمها الدكتور شحرور، أن إعجاز القرآن ليس ما دارت حوله كتب البلاغة العربية، بل هو تعريف البلاغة ذاتها، وهو إيصال المعنى كاملا، وبهذا المفهوم أخرج الدراسات البلاغية التي دارت في فلك المحسنات البديعية مثلا، فالقرآن ليس ترادفا وتكررا، بل كل حرف فيه وجد لتأدية معناه كما هو معروف.

فكرة مهمة أخرى طرحها الدكتور شحرور وهي التفريق بين ما جاء من قصص القرآن، ومنه القصص المحمدي، أي الذي يتناول حياة النبي محمد، عليه أفضل الصلاة والسلام، وعمّا في المصحف من حديث عن الرسالة وتطورها، فالنبوة مختلفة عن الرسالة من جهة في نصوص القرآن، وما يروى من قصص هي أنباء كقصص هلاك الأمم السابقة، وقتال النبي للمشركين، وليست تشريعا للناس، وإنما التشريع اختصت به آيات حددت المحرمات في الرسالة.

أيضا من أهم ما طرح في البرنامج على مدى أكثر من حلقة أن ما كان من تاريخ الفقه الذي تضخم كثيرا في العصر العباسي ودخل فيما يمكن تسميته اليوم بالقوانين المدنية للدولة العباسية تحول عند من جاء بعدهم ولليوم إلى دين وتشريع، بينما هي قوانين وضعها الفقهاء لإدارة الحياة في وقت كانت الدولة الإسلامية هي الدولة الأولى في العالم، وأن محاولة تطبيق تلك القوانين وإعادة عقارب الساعة للقرن السابع الميلادي هو نوع من العبث لن ينجح ولن ينتج عنه إلا ما نراه من سفك للدماء باسم الجهاد والخلافة.

لو توقفنا عند هذه النقطة وناقشناها اليوم على ما مرّ في حياتنا في نصف قرن مثلا لوجدنا أننا فعلا أمام نقطة استغلها كل من حارب المسلمين باسم الإسلام السياسي من سياسة إيران التي ظهرت بعدها، وربما ردت عليها حركة جهيمان وللإخوان ولداعش أو بوكو حرام، الفكرة ببساطة الاعتماد على ما حملته الكتب الفقهية من أحاديث عن آخر الزمان، أو اجتزاء آيات تحث على القتال تخاطب النبي في ظرفها التاريخي وتحويلها إلى سبب لقتل الآمنين، في تفخيخ جسد أو دهس أجساد أو معركة تدور رحاها بين مسلمين في مناطق الصراعات الملتهبة! في النهاية هي كما قال الدكتور شحرور دم مجاني! حتى تحولت «الله أكبر» لإيذان بالقتل وليس أذانا للصلاة لله عند المتطرفين!

ليس هذا استبعادا لأسباب أخرى أدت للفوضى ولسفك الدماء الذي نراه اليوم، ولكن تشدق بعض الإرهابيين وتبنيهم آراء وفتاوى بعض الفقهاء في القتل والتفجير، وإنزالها على الواقع اليوم وقتل المسالمين، إنما يؤكد أننا يجب أن ننتقل لمرحلة الوعي بهذا التاريخ المتضخم الذي لم يحدث أن أتيح يوما كما يحدث اليوم، ولم يوظف كما يوظف اليوم، فما يتاح اليوم على فضاء شبكة الإنترنت يمكن التعاطي معه وتأويله حسب الأهواء الشخصية، وبالتالي محاولة تطبيقه دون وعي تنتج الكوارث، فلا ولاية الفقيه ولا إمام غائبا أو منتظرا ولا خليفة يستطيع إصلاح حالنا اليوم، بل مواكبة صيرورة الحياة التي أرادها الله لهذا الكون ولنا.

أخيرا أحب أن أثني على مقاربة الدكتور شحرور للقضايا المعاصرة ونظره للنتائج اليوم ودعوته لتدبر القرآن، والشكر أيضا للدكتور سليمان الهتلان الذي قام على إنتاج هذا البرنامج الذي يستحق أن نتبنى الكثير من أفكاره في حياتنا اليوم.