تصدر موضوع ويكيليكس عناوين الأخبار حول العالم بكل امتياز نظرا للإثارة التي تحملها التسريبات المنشورة والتي يراها البعض على أنها كشف معلوماتي في غاية الأهمية، ولعل الأهمية تنبع من كون هذه المعومات أكدت ولو بصورة غير مباشرة الاعتقادات الشعبية المتعلقة بما يجري خلف الأبواب المغلقة وفي السياسة بشكل عام. ولكن الوجه الآخر لموضوع ويكيليكس هو أن ما تم كشفه من معلومات لا يعدو في حقيقته أن يكون أكثر من نميمة سياسية حيث إن عمق المعلومات التي تم كشفها لا يرقى لما يسعى له المحلل الجاد، تسريبات ويكيليكس حتى الآن اعتمدت على الكم أكثر من الكيف ولعلنا إذا نظرنا إلى ما نشر حول إيران والعرب نكتشف أن ما نشر ليس أكثر من محاضر حوارات ونقاشات غير رسمية بالمعنى الدبلوماسي فهي محاضر زيارات وليست محاضر اجتماعات رسمية (official) ومن ثم فرغم ما قيل حول هذا الأمر تظل التسريبات غير قادرة على إعطاء صورة أو معلومات يمكن تحليلها حول التوجهات الأميركية الحقيقية للتعامل مع إيران.

ولكن اللافت للنظر في موضوع ويكيليكس ليس في تبعات هذه التسريبات على وجه الخصوص ولكن في التأثيرات المستقبلية لتبعات الكشف المعلوماتي بصورة عامة. هنا تبرز قراءتان حول ظاهرة ويكيليكس جديرتان بالتنبه والنظر:

أولاً: اعتمدت القراءة الأولى على النموذج المؤامراتي في التفسير وهو النموذج الذي يرى ويحلل الأحداث من منطلق أنها تعكس خلفها واقعاً مغايراً ويختلف هذا النموذج عن النموذج العقلاني في التفسير أو غيره من النماذج في أنه لا يأخذ في الحسبان الواقع المعقّد للاعبين المختلفين وإنما يجنح نحو اختزال الواقع في أفكار أحادية الاتجاه غالبا ما تكون لها قدرة تفسيرية عالية وهي على الأعم تدور حول فكرة وجود مؤامرة خفية خلف الأحداث. ورغم اعتراض كاتب هذه السطور المستمر على هذا النموذج الغالب على التحليل في المنطقة إلا أن هذا النموذج يوفر رؤية تستحق النظر فيما يخص قضية ويكيليكس الأخيرة. يرى مؤيدو هذا النموذج أن عملية التسريبات التي قامت بها ويكيليكس هي برمتها خطوة أميركية استخباراتية أو سياسية تمت تحت غطاء ويكيليكس وبعلم الحكومة الأميركية أو أولئك المتنفذين في الولايات المتحدة والذين يعملون تحت الستار.

هذا النموذج ورغم اعتراض كاتب هذه السطور عليه يجد له في هذه القضية وجهة نظر من الجدير طرحها وهي وجهة نظر تعتمد على استشراف الأهداف من وراء هذه التسريبات، حيث يرى هذا النموذج أن مثل هذه التسريبات تعمد بصورة أولية إلى إحداث خلخلة في ساحة العلاقات الدولية – وإن كانت الولايات المتحدة أبدت من خلال تصريحات مسؤوليها رفضهم التام لما حدث وتصريحهم بأن مثل هذه التسريبات تمثل تهديداً للأمن القومي الأميركي – إلا وجود خلفيات فكرية من قبيل فكرة "الفوضى الخلاّقة" التي يدفع بها المحافظون الجدد تعطي لهذا النموذج قابلية كبيرة للنظر. فهل هذه التسريبات جزء من محاولة عدة أطراف في الولايات المتحدة لخلق نوع من الفوضى الخلاقة التي تسمح بالعمل على إعادة تشكيل أو بالأحرى التأثير على ساحة العلاقات الدولية؟ هذا السؤال جدير بالنظر – رغم اعتراض كاتب هذه السطور على فرضيته التي انطلق منها، وبالتالي ومن هذا المنطلق ترى هذه القراءة أن الولايات المتحدة أو بعض الأطراف تحاول خلق حالة جديدة من خلال إدخال عنصر الكشف المعلوماتي إلى ساحة لعبة العلاقات الدولية، وحيث تملك الولايات المتحدة الناصية الكبرى والأكثر احترافية فيما يخص مجال المعلومات، تصبح لها قوة جديدة في ساحة السياسة الدولية تمكنها من بسط نفوذها بصورة أكبر على لعبة النفوذ بين الدول.

ثانياً: تعتمد القراءة الثانية على النموذج الديكاليكتي الهيجلي (Hegelian Dialectic) في التفسير وهو النموذج الذي يقوم على فكرة أن كل أطروحة (Thesis) تقوم في المقابل لها أطروحة مناقضة (Antithesis)وينتج عن تفاعلهما تركيب جديد (Synthesis) في دوامة مستمرة من التفاعلات، وهذا النموذج من ثمّ يوفر لنا قراءة تستشرف ناتج التفاعل الذي سيولده دخول أطروحة الكشف المعلوماتي على واقع العلاقات الدولية، ففيما يخص موضوع ويكيليكس وتبعاً لهذا النموذج التفسيري تصبح مسألة التسريبات بغض النظر عن اللاعب الذي يقف خلفها هي أطروحة جديدة في ساحة العلاقات الدولية لا تلبث أن تولد أطروحة مناقضة، في هذا المثال قد يعد هذا الأمر فقدان الثقة في الملعب السياسي العالمي أو تحول "المعلومات" كمعلومات من حالتها الجامدة التي يتم استخدامها في الوقت الراهن إلى مجرد ورقة أخرى من أوراق اللعب بكل ما لهذا الأمر من انعكاسات على لعبة السياسة بين الأمم. وما يهم النظر له هو التركيب الناتج عن كل هذه التفاعلات.

ثورة المعلومات ما تزال ظاهرة جديدة نسبياً على العالم، وطبقاً للقراءة الثانية فإن ويكيليكس ليست سوى الاستهلال الأول لدخول ثورة المعلومات إلى فضاء السياسة والتفاعل معها وبالأخص العلاقات الدولية في ظل العولمة، مما ينبئ بحدوث تحولات جذرية في هذه الساحة تتغير تبعاً لها قواعد اللعبة بصورة كاملة بين الأمم. المعلومات والكشف المعلوماتي واستخدام المعلومة ستتحول مع الوقت تبعاً لذلك من ركيزة في صنع السياسة إلى ركيزة في لعبة السياسة ويكمن الفرق بين الاثنتين في كون الأولى تشكل لعبة الأوراق التي تكمن مهارة اللاعبين في أخذ أكبر قدر منها، بينما الثانية تشكل الورقة التي يحملها كل لاعب في يده وتكمن مهارته في التلاعب بها، وفي هذه القراءة لا تملك الولايات المتحدة كلاعب ضمن اللاعبين أي تفوق نسبي حيث إن مهارة اللعب بالأوراق ستعتمد على مهارة اللاعب وهنا تملك العديد من الدول الفرصة نظراً لكون هذا التحول لا يزال في طور التشكل ولم يتم بعد الإلمام بأبعاده بالقدر الكافي.

بغض النظر عن اختلاف الأطروحات والأفكار والقراءات، فإن ما لا يمكن الاختلاف عليه هو أن ساحة العلاقات الدولية تشهد اليوم تحولات عميقة وسريعة، مما بات يستلزم أن يتم إيلاء مزيد من الاهتمام بالمؤسسات الفكرية الوطنية القادرة على ضخ الدماء الجديدة المحملة بالقراءات والأفكار في الأجهزة المعنية بالعمل السياسي، وحتى لا نتغيب عن المنافسة مع اللاعبين الآخرين، فبالقدر الذي تؤثر فيه التسريبات والكشف المعلوماتي على الدول بقدر ما لهذه الدول من فرصة للتلاعب بالمعلومة في لعبة السياسة بين الأمم.