في صيف مدينة «أبها» رغم برودته واعتداله، سمعت عجوزا ذات ضحى مشمس، يحث ابنه على السير معه قائلا: «عجّل وأنا أبوك حنّذتنا الشمس».

تقادحت في ذهني أسئلة مُلحّة عن تلك الطاقة الذهنية التوليدية، والوعي اللغوي عند ذلك العجوز، وقدرته الذاتية على صياغة تلك الدلالة والمعنى الرفيع المعبر عن المعنى، «حنّذتنا الشمس».

إفصاح مبهر، وإيحاء متواشج مع شواهد «القرآن الكريم»، قال تعالى في سورة «هود»: «فما لبث أن جاء بعجل حنيذ»، قال نافع بن الأزرق لابن عباس، رضي الله عنه، أخبرني عن تفسير هذه الآية، قال: «الحنيذ» هوالنضيج مما يشوى بالحجارة، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر: «لهم راح وفار المسك فيها... وشاويهم إذا شاءوا حنيذا».

وقد توسع في ذلك العالم اللغوي «أبو تراب الظاهري» رحمه الله، في كتابه «شواهد القرآن» الجزء الأول، إذ ذكر أقوال المفسرين والنحويين وما دونوه لمعنى «حنيذ»، كقول السجستاني: «هي المشوي في خد الأرض بالرضف، وهي الحجارة المحماة».

وقال الفراء: «الحنيذ ما حفرت له في الأرض ثم غممته وهو من فعل أهل البادية»، وقال الزمخشري «حنذ اللحم إذا شواه على الحجارة المحماة، ومن المجاز قولهم حنّذتنا الشمس»، وفي غريب ابن قتيبة قال: «حنذتُ الجَمَل إذا شويته في خد من الأرض بالرضف وهي الحجارة المحماة»، وفي الحديث: أن خالد ابن الوليد أكل مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأتى بضبّ محنوذ، و«الرضيفة» عند سكان الجنوب، والتي ورد ذكرها في المرويات السابقة، هي حجر أملس مُحمَى على النار، يوضع في الدهن ليجلب النكهة ولذة الطعم للعريكة، وغيرها من الأكلات الشعبية المعتمدة على القمح، تُرى: لماذا نسارع إلى تخطئة ما نسمعه من «العامة»، وننكر عليهم كل ما يقولونه من دارج كلامهم؟

يقول جورجي زيدان: «إن عدم ورود لفظ في القاموس لا يدل دائما على أنه عامي أو ضعيف»، ويقول أحمد أبو سعد في كتابه «معجم فصيح العامة»، «اللسان العربي مرن، فهو يقبل بارتياح كل ما يضاف إليه من المفردات والجُمل مما لا يخالف الأصول المقررة»، ويقترح أبو زيد أن يعمد أبناء كل قطر عربي، إلى جمع فصيح كلام العامة في ديارهم، وطبعه ونشره، ورفعه إلى هيئة عليامن أعضاء المجامع العلمية، لتتولى دراسته وتستخلص منه الفصيح المشترك بين هذه الأقطار، وتجعله بمثابة المواد الأساسية لمعجم موحد.