نشرت الصحف المحلية الأسبوع الماضي خبرا عن «فوضى» حصلت في دار رعاية الفتيات في مكة المكرمة انتهت بتحويل تسع من النزيلات للسجن. وهذه الدار بالذات سبق ونشر عنها أخبار مشابهة، مما يعني أن ثمة مشكلة حقيقية فيها، ولا بد من متابعة أمرها عن كثب، بل وفتح ملف دار رعاية الفتيات بشكل كامل بعد أن تواترت الأخبار السلبية عنها في عدة مناطق.

مما لفت نظري في حيثيات الخبر، أن واحدا من الأمور السيئة التي يتم تعريض النزيلات لها إجبارهن على المشاركة في النشاطات «الدعوية» في مدارس البنات. وبعد الاستقصاء عما يعنيه ذلك، علمت أنه يؤتي بهؤلاء المستضعفات ويطلب منهن الحديث علنا عن أخطائهن والقيام بشتم أنفسهن وإظهار الندم، وإخبار الفتيات بكم هي مروعة الحياة التي يحيينها الآن في الدار! وحين تثور كرامة إحداهن، وتكون مدركة بأنه ليس من حق أحد إجبارها على هذا الفعل المهين، تتعرض للعقوبة! فعن أي رعاية للفتيات نتحدث؟

ابتداء ما هو دور دار رعاية الفتيات؟ بحسب المتحدث الرسمي لوزارة العمل والتنمية الاجتماعية خالد أبا الخيل: «مؤسسة رعاية الفتيات هي مؤسسة تعنى بتحقيق أسس الرعاية والتقويم الاجتماعي، وتقوية الوازع الديني، والعمل على تحقيق الرعاية الصحية والتربوية والتعليمية والتدريبية السليمة للفتيات الجانـحات اللاتي يُحتجزن رهن التحقيق أو المحاكمة، وكذلك اللاتي يقرر القاضي بقاءهن في المؤسسة ممن تقل أعمارهن عن ثلاثين سنة».

الأهداف المذكورة جيدة، ولكن هل المسؤولات القائمات عليها مؤهلات للقيام بها؟ هل إذلال النزيلة وإيصالها إلى المرحلة التي تحتقر فيها نفسها حتى تقرر الانتحار، وقد وقعت حالات مؤسفة بالفعل، يدخل ضمن الرعاية النفسية والتربوية؟ هل هي أفضل من زجهن في السجون العامة؟ ولماذا عمر الثلاثين؟ يصبح الذكر راشدا في بلادنا في عمر الحادية والعشرين، بينما تظل الأنثى في حكم الفتاة «القاصر» حتى سن الثلاثين؟!

في الشرائع السماوية وكذلك الوضعية فإن هناك جرائم وثمة عقوبات لها، وبهذا تتحقق العدالة، ويستتب الأمن. وقد وجدت السجون كحل للكثير من العقوبات، بحيث يقضي فيها الشخص محكوميته، ويحرم من أغلى ما لدى الإنسان..حريته، ثم يخرج ليمارس حياته من جديد.

ولأن الدول والمجتمعات المتقدمة تعي بأن الشخص سيعود للمجتمع بعد فترة طالت أو قصرت، فهم يعمدون إلى إعادة تأهيله وتجهيزه لهذا الخروج. ففترة السجن هي فترة عقوبة، ولكنها يمكن أن تكون كذلك فترة لإعادة برمجة المنظومة الأخلاقية والفكرية والمهنية للسجين. بحيث يخرج منها ولا يعود إليها، لأنه قد وجد في حياته الجديدة ما يغنيه عن عالم الجريمة.

فإذا كان هذا حديثنا عما يجب أن تكون عليه السجون، وحال المساجين الذين ثبت جرمهم وتحددت عقوبتهم، أفلا يفترض أن يكون حال النساء أفضل في دار الرعاية، وهن -بحسب الأستاذ أبا الخيل- قيد التحقيق ولم تثبت جريمتهن بعد؟ بل وبعضهن لسن مذنبات أصلا، بل معنفات هاربات من ظلم الأهالي وتقصير النظام وتعنت المجتمع.

يفترض أن يفتح تحقيق «مستقل» للنظر في أحوال هذه الدور، والتحقق من أحوال الأخوات المقيمات فيها، بل وفي كافة مؤسسات الدولة المعنية برعاية الفتيات، بل وحتى الفتيان من الأيتام. كنت في الحادية عشرة من عمري عندما شاهدت مشرفة دار الأيتام تضرب بالعصا في ساحة المدرسة زميلتي في الصف لأنها طلبت منها ببراءة أن تمسك لها الآيس كريم حتى تلبس العباءة بسرعة! كانت تضربها بعصبية وتقول لها: «هو أنا باشتغل عندك؟!»، إن كون المؤسسات النسائية مغلقة يجعلها في وضع آمن من التفتيش مقارنة بالبنين، فتتحول بعضها إلى مدن للخوف والظلم تحكمها طاغية مع زبانيتها.

وبعيدا عن التحقيق في الأوضاع الحالية، فإنه لا بد من إعادة النظر في كيفية أوضاع النساء اللاتي يدخلن إلى هذه الدور، وهل هناك حاجة لها أصلاً؟

إذا كنا نعتبرها إصلاحية للجنح الصغيرة أو للقاصرات (دون 21 سنة)، فيجب أن تستمر ولكن أن يتم تحسينها بشكل كامل، فهؤلاء الفتيات في أول الشباب ويحتجن كل دعم لبناء حياة جديدة سعيدة.

أما من تورطت في جريمة واضحة، وهي راشدة، ولنقل مثلا الزنا، فعقوبة الزنا الشرعية في الإسلام الجلد، وبعدها لماذا يجب أن تستمر في السجن؟ الجرائم الأخلاقية عموما يجب إعادة النظر فيها، هل هناك عقوبة شرعية على الخلوة مع عدم ثبوت الزنا؟ وهل كل من يقبض عليهن مع غير محارم في خلوة؟ لو أن فتاة وجدت مع شاب غريب في مطعم، دون أن يقوما بأي فعل مناف للآداب، فهل هذا أمر يستوجب أصلا تدخل الدولة لمراقبتها ناهيك عن معاقبتها؟

شرعيا وأخلاقيا هناك الكثير من النواهي والمحظورات التي يتقيد بها الإنسان خوفا من الله تعالى، لكن ذلك أمر بين العبد وربه، فالدولة ليست لديها أجهزة تراقب قيام الفرد بالصلاة أو الحج وهي أركان. فكيف نقضي على مستقبل فتيات صغيرات؟ وإن كان لا بد من عقوبات على الجرائم «الأخلاقية» فلتكن مقننة وواضحة وغير متروكة للقضاة ليقرروا فيها. بحيث يقضي الشخص محكوميته ثم يعود لحياته على أمل أن يكون الله قد رزقه التوبة.

أما المعنفات الهاربات من الظلم، أو اللاتي انتهت محكوميتهن، فلا أفهم لماذا يدخلن هذه الدور أصلا؟

إن لم تستطع الدولة إجبار أهاليهن على حسن المعاملة أو استلامهن، فعليها إذا توفير سكن مستقل لائق بهن، وتأمين وظيفة ومواصلات لهن، أو مقعد مدرسي أو جامعي لمن ترغب في مواصلة دراستها. بحيث تدريجيا تعتمد على نفسها وتشق طريقها في الحياة دون أن تكون عالة على من يسمون بأهلها أو على الدولة. وإن رغبت في الزواج يمكن مساعدتها في ذلك، ويكون القاضي وليها، بشرط أن يكون الزواج بقناعة وقبول، ولا يكون مثلما اشتكت البعض من أشخاص مسنين أو معطوبين.

لا يوجد أسوأ من الإرهاب وترويع الآمنين، وتوريط البلاد في مشكلات محلية وإقليمية ودولية، ومع ذلك فالدولة مشكورة قدمت برنامجا فريدا للمناصحة، توفرت فيه عناصر الرعاية النفسية والمادية والمعنوية، بحيث يستطيع من يتخرج منه أن يعود للمجتمع ويعمل ويتزوج، وكأن المناصحة تجب ما قبلها. فهل تطمح المعنفة أو صاحبة الجنحة التي لم تضر أحدا إلا نفسها إلى معاملة تشبه معاملة الإرهابي؟