يسعى هذا المقال إلى تحليل سلوك سائقي السيارات أخلاقيا. حالة قيادة السيارة تعطي دلالة خاصة مثيرة للتأمل الأخلاقي باعتبار أنها تعطينا مؤشرا على سلوك الإنسان مع أشخاص لا يعرفهم ويستطيع التخلص منهم بسرعة. في المدن الكبيرة تحديدا تختفي شخصية قائد السيارة داخل سيارته. صحيح أن الجهات الأمنية تستطيع التعرف على شخصية السائق من خلال تحديد شخصية سيارته، لكن بالنسبة لعموم مستخدمي الطرق فإن شخصيات السائقين الآخرين تختفي خلف مقود السيارة. قائد المركبة يعلم أن من حوله لا يعرفونه، وبالتالي فإن تحليل سلوكه الأخلاقي في هذه الحالة سيكون مفيدا باعتبار أن السائق في حماية من ارتباط نتائج سلوكه بسمعته، وهو ما يؤثر على سلوكنا بالتأكيد. سلوك الإنسان في عمله مثلا مرتبط مباشرة بشخصيته وسمعته ومستقبله ومصالحه في هذا المكان. لذا فإن كل هذه العوامل تدفع بحساباته وتصرفاته باتجاه احترازي مقارنة بسلوكه مع أشخاص لا يعرفونه ومن المحتمل جدا ألا يلتقيهم في المستقبل كما هو الحال مع شركاء الطريق من السائقين الآخرين.

كذلك حالة قيادة السيارة تمتاز بكونها تعطي الفرد فرصة الهروب من الآخر، موضع سلوكه، بسرعة. أقصد هنا أن العلاقة بين سائقي السيارات، خصوصا في المدن الكبيرة، هي علاقة سريعة جدا، ربما تمتد فقط لثوانٍ معدودة. سرعة هذه العلاقة لا تعطي الفرد فرصة للتفكير المتعمق في تصرفاته بقدر ما تعتمد على ردود فعله السريعة والمباشرة. نضيف لذلك أن الطبيعة الحركية لسير المركبات ترفع فرص تملص الفرد من مسؤوليات سلوكه إذا سلم من رقابة طرف ثالث.

هذه الخصائص للعلاقات التي تجمع سائقي السيارات تجعل من تحليل سلوكهم الأخلاقي ذا دلالة خاصة، لكن بشكل عام نستطيع القول إن قيادة السيارات تعكس بشكل عام أخلاق المجتمع. من عاش في مجتمعات مختلفة يعلم هذا الأمر. من التجارب المشتركة عند من عادوا للتو من الابتعاث في أميركا للسعودية، الشكوى من القيادة، خصوصا في المدن الكبرى. في أميركا حالة القيادة تعكس الكثير من الالتزام بالنظام والتعاون بين البشر. في السعودية ترتفع حالات الأنانية واختراق القانون. هذا يعني ارتفاع الأذى المترتب على القيادة في السعودية مقارنة بأميركا.

في السعودية لدينا ثلاثي مركب يتسبب في أزمة المرور: قائد سعودي بمهارات قيادة عالية (باعتبار أنه يقود السيارة في سن مبكرة جدا مقارنة بالآخرين في أغلب دول العالم)، ولكن باحترام محدود جدا للنظام المروري، قائد غير سعودي بمهارات قيادة ضعيفة جدا وباحترام محدود للنظام المروري، وثالثا سلطة مراقبة ضعيفة ومحدودة جدا من الجهات المسؤولة عن المرور. هذه التركيبة لها أثر حقيقي على السلوك الأخلاقي للأفراد، فهي تجعل من تكلفة احترام الآخرين وحقوقهم في القيادة عالية جدا. الفرد الذي يحاول الالتزام يشعر بالغربة والعزلة وعدم التقدير إلا في حالات محدودة.

جزء أساسي من مشكلة المرور في السعودية أن غالب الوافدين للبلد من الخارج يصلون للسعودية بخبرة محدودة في القيادة ومن بلدان تعتبر حالة المرور فيها أسوأ بكثير من السعودية. من المشاهد الشخصية التي تكررت في الشهور الماضية أنه في فترة انتظار خروج ابني من المدرسة تتوافر لي فرصة لملاحظة سلوك السائقين في صف سياراتهم أمام المدرسة. كنت ألاحظ استخدام بعض السائقين لموقفين بدلا من موقف واحد لسياراتهم، مما يقلص فرص الآخرين في الحصول على موقف. هذا الموقف المتكرر جر معه حوارات كثيرة مع هؤلاء السائقين الذين عادة ما يصححون خطأهم، ولكن بعد أن يعطوك انطباعا واضحا بأن سلوكك غريب، وأن الأصل هو عدم احترام قوانين المرور ما دامت دورية المرور لا تتواجد في المكان.

الشكوى من حال المرور في السعودية أمر متكرر، لكن ما سأحاول تحليله في المقالات اللاحقة لهذا المقال لا يهدف لتحليل مشاكل المرور بقدر ما يهدف إلى تحليل المواقف الأخلاقية والعلاقات التي تنشأ بين الأفراد أثناء قيادة السيارة. يمكن أن أجعل نقطة انطلاق هذه التحليلات المشهد التالي: في الطرق السريعة الممتدة تلاحظ أن قادة السيارات يتواصلون مع بعضهم بلغة خاصة. مثلا في حال وجود إبل تعبر الطريق أو وجود جهاز ساهر الراصد للسرعة، تجد أن قادة السيارات ينبهون بعضهم البعض بشكل واضح عن الخطر الموجود في الطريق. لاحظ هنا أن سائق السيارة ينبه أشخاصا لا يعرفهم بشكل شخصي ولا تربطهم به علاقة مباشرة غير مشاركة الطريق. في ذات الوقت نجد أن ذات السائقين لو اجتمعوا عند إشارة المرور أو عند مدخل ضيق تعاملوا مع شركاء الطريق الآخرين بطريقة أنانية. ما الذي يجعل الفرد تعاونيا في حالة معينة وأنانيا في حالة أخرى. هذا السؤال يمكن مناقشته من وجهات نظر مختلفة وبمنهجيات متعددة، كالتحليل النفسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، لكن ما سأحاوله هنا هو محاولة تحليل هذه المواقف للتعرف على طبيعة العلاقات التي تنشئها بين الأفراد، وربما عن تعقيد العلاقات البشرية وكيف تتأثر بالسياق العام الذي تنشأ فيه.