في حالات الأزمات السياسية المعلنة، يتحتّم أن تتخذ وسائل الإعلام الوطنية المؤثرة سياسةً إعلاميةً حذرةً وواعيةً ومستشرفةً وقادرةً على اتقاء التداعيات السلبية، وعلى تفادي خلْق إعلام مضلل مضاد؛ بمعنى أن تُوجد هذه الوسائل خطوطاً إعلاميةً متوازيةً ومُنسّقةً يتسم خطابها بالرزانة، وتقوم مضامينها على المعلومات الدقيقة المستقاة من مصادر موثوقة؛ لأن الاعتماد على الشائعات والأقاويل والرائجات الشعبوية، سيتحول – حتما - إلى مادة دسمة يتغذى عليها الإعلام المضاد، وبخاصة حين يكون الإعلام المضاد في موقف الضعف بدفاعه عن قضية خاسرة، أو عن فئة منبوذة، أو عن تنظيمات عدائية لا تعترف بحق الحياة إلا للمنتمين إليها، أو عن نظامٍ سياسيٍّ متلوّنٍ غادر، مما يجعل هذا الإعلام المضاد يناور في مساحات ضيقة جدا باحثاً عن أي ثغرة تمنحه فرصة إقلاق الآخر، وشق صفه، والسخرية منه.

إن من أخطر هذه الثغرات اعتماد وسائل الإعلام على أحاديث المجالس، وعلى أوهام الفئات، وعلى الشائعات التي يطلقها الإعلام المضاد بوصفها مصائد خادعة هدفها إيقاع إعلام أهل الموقف الأقوى والأوضح في «الشراك» تمهيدا لتقريعه والسخرية منه؛ وأعني أن عدم اعتماد الإعلام على المعلومات الصحيحة، وصدوره عن لغة رزينة، يمنح الإعلام الآخر فرصة تصيد هذه الأخطاء المعلوماتية، والزلات اللغوية، ثم البناء عليها بناءً تضليلياً، وتحويل هذه الأخطاء – في أذهان المستهدفين بالخطاب الإعلامي - إلى سمة عامة غالبة، وإن لم تكن كذلك في الواقع.

في الأزمة القطرية، اندفعت وسائل إعلام الدول المتضررة من دعم قطر للإرهاب وتنظيماته ورموزه اندفاعا عشوائيا، أزعم أنه أفضى إلى نتائج عكسية، إذ وجدنا وسائل الإعلام القطرية – وأخص قناة الجزيرة التي تعتمد على المخاتلات والمغالطات - تستثمر تلك العشوائية، وذلك الاستعجال، في تشويه الدول الأربع: السعودية، والإمارات، ومصر، والبحرين، تشويها تستقي مادته الأصلية من تقارير تلفزيونية، ومواد صحفية بُثت أو نُشرت عبر وسائل إعلام هذه الدول، وبالتالي تشوه عدالة القضية التي لا يختلف حولها العقلاء المستقلون الخالون من الأمراض الحزبية، وهي رفض الإرهاب في ذاته، ورفض دعمه وداعميه، ورفض الأفكار التي تغذيه، والجماعات التي تمارسه سراً أو علانية.

أزعم – من خلال متابعتي لوسائل التواصل الاجتماعي، أن عشوائية العمل الإعلامي حول هذه القضية، قد أسهمت في إيجاد شيء من التوتر، وأعني التوتر المجتمعي الذي يشكل خطرا على تماسك الجبهات الداخلية في أثناء الأزمات السياسية، ويؤثر على السلم الاجتماعي بعدها، فضلا عن أن هذه العشوائية قد أحدثت تشوهّات في الوعي، مما أفضى إلى فئويات وحزبيات وحوارات هامشية متشنجة لا علاقة لها بالمشكلة الأصل، سوى أنها قادحتها.

وصل الأمر – هنا – إلى تشكيك بعض المتحاورين – عبر واتساب وتويتر - في مواقف بعض الدول الأربع الرافضة للإرهاب، وهو تشكيك لا يمكن أن ينجم إلا عن نجاح الإعلام القطري/ الإخونجي المكشوف أمام العارفين، في مخاتلة العقول، واستغلال الأزمة الحالية في بثّ شائعات عن وجود خلافات عميقة بين: السعودية والإمارات من جهة، والسعودية ومصر من جهة أخرى، وهي شائعات قديمة تتجدد، إذ بدأت منذ عزل الرئيس المصري السابق محمد مرسي، ولها أهدافها المعروفة الاستراتيجية المتمثلة في إفشال الحكومة المصرية، وإضعاف موقف الإمارات القوي المضاد لجماعة الإخوان المسلمين فكرا وتنظيما، فضلا عن وجود هدف آني، وهو الإيهام بتباين مواقف الدول الأربع وأهدافها؛ لإضعاف الجبهة السياسية الرافضة للإرهاب وتنظيماته، في محاولة يائسة لإنقاذ قطر بوصفها راعية هذه التنظيمات وداعمتها وحاميتها.

في ظني أن تشوهات الوعي هذه، ومنها الأنموذج الواضح في الفقرة السابقة من المقال، ناجمة عن أسلوب «الردح الإعلامي» الذي كان بديلاً للتوجه إلى الجمهور المستهدف بعقلانية، وهو الردح الذي تحول مع مرور الوقت إلى شكل من أشكال ممارسة التعبئة السلبية التي تؤدي إلى نتائج عكسية مهما حسنت النوايا، ومهما كانت القضية عادلة، ومهما كانت الأهداف واضحة؛ ذلك أن أسلوب «الردح الإعلامي» منح التنظيمات التي تعتمد على الكذب والتضليل وبث المعلومات المغلوطة اعتمادا كاملاً فرصة ذهبية للمزيد من الكذب، والمزيد من الشائعات الهادفة إلى تأجيج المشاعر، وصناعة التشرذم، وتشكيل الاحتقانات في سبيل الهدف الحلم، وهو تقويض الأنظمة القائمة لتحل مكانها دولة الخلافة «إياها»، والمؤلم أن «إعلام الردح» هو المصدر الرئيس لهذه الشائعات الحزبية التي لا يمكن أن نفصلها عن الشائعات التي يبثها الإعلام القطري؛ لأنه يُدار بعقول الإخوان المسلمين، ويخدم أهدافهم.

يحتاج إعلامنا السعودي بوسائله المختلفة، إلى أن يكون فارعا كقامة الوطن، ومؤثراً كسياسات بلادنا، ومُهابا كالمملكة العربية السعودية، وهو ما لن يتحقق إلا حين يؤدي دوره بمهنية وموضوعية ووعي وقدرة على استشراف التداعيات سلبيها قبل إيجابيها، وذلك يحتّم وجود استراتيجيات واضحة يُدار بها الإعلام في الأزمات السياسية/الوطنية، وهي ما يعرفه المتخصصون في الإعلام معرفة جيدة، ولستُ منهم، ولكني أعرف منها إطارها العام.