بعيدا عن كل هذا الجدل الذي يدور حول هذه القناة، ومقاصدها وأهدافها التي تروم تحقيقها في خليجنا، أو في وطننا العربي. بعيدا عن كل هذا، يمكن طرح هذا السؤال المجرد: هل للجزيرة علاقة بالإرهاب؟ أو هل ساعدت الجزيرة الإرهابيين في تحقيق أهدافهم ومشاريعهم من تدمير البلاد وإثارة الفوضى؟

أدرك أن هذه الأسئلة ربما تكون صادمة للقارئ نوعا ما، لكني مع ذلك أدعوه إلى عدم مقاومتها بالمعهود الذهني لديه، وقراءة المقدمة التالية حتى نرى مدى صوابية طرح هذه الأسئلة ابتداء.

دون شك، يُعدّ تنظيم القاعدة المؤسس الفعلي للإرهاب الشرقي في العالم، أعني الإرهاب المتخفي تحت ذرائع دينية، فبعد انتهاء الصراع الأفغاني ونهاية حلم الدولة، وتناحر الرفاق وأمراء الحرب، وضياع التضحيات الكبيرة التي قدمها الشعب الأفغاني، تحول ما يسمى بالأفغان العرب إلى قنابل مفخخة في جسد الوطن العربي، وبقيت فكرة الخلافة حلما يراود كل شاب شارك في هذا الصراع، فهو ينتظر الفرصة لإقامتها، ولهذا اشتغل أسامة بن لادن مؤسس القاعدة على تنمية هذا الشعور، وعدم خفوته لدى الشباب، ففي كل خطاباته يصرح بهذا الحلم، بل وصرح في خطاب متلفز بأن مهمة القاعدة تتجلى في «رسم خريطة جديدة للعالم الإسلامي تحت راية الخلافة الإسلامية»، هذا الشعور الكامن في عقول الشباب هو قادح زناد الإرهاب، لأنه يحُول بين الشاب وبين الانسجام مع دولته ومجتمعه، ويجعله في حالة عزلة واغتراب تامّين.

المهم، مضى سدنة القاعدة في ترويج هذا الشعور، وتم إعلان قاعدة «الجهاد» في أفغانستان، وأعلنت القاعدة عن مشروعها التدميري في الوطن العربي، واشتغل أسامة بن لادن ومن معه على تحقيق وعده: «رسم خريطة جديدة للوطن العربي تحت راية الخلافة الإسلامية»، وكانت السعودية هي نقطة الاستهداف الأولى للقاعدة، فوجهت كل سهامها إليها. ففي الثالث عشر من نوفمبر لعام 1995، دشنت القاعدة مشروعها الإرهابي الأول بتفجير بعثة عسكرية أميركية موجودة في مقر تابع للحرس الوطني السعودي في حي العليا في العاصمة الرياض عبر سيارة مفخخة، ونتج عن الحادث عشرات القتلى والجرحى، وأعلنت القاعدة عبر لسان زعيمها أسامة بن لادن مسؤوليتها عن التفجير. من ذلك التاريخ وهذه الحادثة والقاعدة توالي هجومها على بلادنا عبر سلسلة من التفجيرات الآثمة، ذهب ضحيتها المئات من أبناء هذا البلد ورجال أمنه، والشيء اللافت أن القاعدة -رغم توحشها- كانت تكسب مزيدا من الضحايا من الشباب المغرر بهم، سواء من داخل المملكة أو خارجها، وهذا يعود سببه إلى ما نحن بصدده، وهو النشاط الإعلامي المكثف للقاعدة، وأذرعتها الإعلامية الكبيرة!.

وهنا نصل إلى المقصود من هذه المقدمة: ما دور الجزيرة في هذا النشاط الإعلامي المحموم؟ هل كانت الجزيرة تواجه هذ الخطاب أو تروّج له؟

من يتابع برامج الجزيرة ونشرات الأخبار فيها -في ذلك الوقت- لا أعتقد أنه يمكن أن يتأخر عن القول، إن الصوت الوحيد للقاعدة كان صوت الجزيرة فقط: تصريحات ابن لادن المتلفزة، ورسائله إلى أنصاره كلها كانت تبث عبر قناة الجزيرة، والأمر اللافت حقا أنه رغم حالة الحصار الخانق التي يمر بها التنظيم من جميع دول العالم، فقد كانت الجزيرة تستلم أشرطة ابن لادن من مؤسسة السحاب الإعلامية التابعة للقاعدة بيسر وسهولة، وأولا بأول! فبعد كل حادث إرهابي يأتي مباشرة تعليق زعيم القاعدة في النشرة الرئيسة للقناة! بل وذهبت الجزيرة أبعد من ذلك، فبدأت تبث وصايا الانتحاريين القتلة الذين قاموا بالتفجيرات في بلادنا، وكانت تنشر «زفة الشهداء» لهؤلاء القتلة بعد كل عملية تفجير تحصل في بلادنا. كل ذلك كان يتم ويحصل، وسرادق العزاء في بيوتنا -نحن السعوديين- لم ينته بعد، حزنا على شهدائنا من المواطنين ورجال الأمن!

نأتي إلى السؤال الأهم: هل يمكن بعد هذا أن نقول إن للجزيرة علاقة وثيقة بالقاعدة لكننا لم نكتشفها بعد؟!

أدَعُ الجواب للقارئ، لكن سأفترض أنه اختار النفي، إذن لننظر في سر هذا الموقف المتخاذل من الإرهاب لدى القناة، وهل أسهم هذا الموقف في تطبيع الإرهاب بعقل الشاب العربي أو الخليجي بالتحديد؟

والجواب، نعم -بكل أسف- فقد أسهم هذا الموقف في تطبيع الإرهاب وترويجه، وتحويله من حالة شذوذ وجنوح إلى حالة مقاومة وصمود، وكانت الجزيرة تشتغل على الشعارات كثيرا في ترويج خطاب العنف، وتحاول جهدها أن توصل للمتابع أن قاعدتها في العمل الإعلامي: المهنية الإعلامية الصحيحة، وحرية الرأي، وكان من أبرز آثار هذا الموقف الخادع أن نجحت في الانحياز إلى الإرهاب -على غفلة من المتابع العربي- وكل ذلك بدعوى الحياد الإعلامي، فبدت للمتابع أنها تقف في المنتصف بين الإرهاب والسلام، بين الإرهابي وضحيته، لكن لم تدرك الجزيرة -أو كانت تدرك- أنه لا توجد منطقة فاصلة بين الموقفين، إما أن تكون مع الإرهاب أو تكون ضده، إما أن تنحاز إلى الإرهابي أو إلى الضحية، أما الموقف في «الوسط» فهو تطبيع للإرهاب وترويج له، وهذه إحدى الأخطاء التاريخية التي وقعت فيها الجزيرة، وعلى افتراض صحة هذا الموقف -مهنيا- يحق لنا أن نسأل: لماذا لم تتخذ الجزيرة الموقف نفسه مع بعض معارضي السلطة في قطر؟ فقد كانت تتعامل معهم بمنتهى القمع! لا يمكن أن يظهر لهم صوت، أو يُسمح لأحد منهم بالحديث في أي وسيلة إعلامية قطرية! لماذا غابت المهنية هنا؟ بينما حضرت في خطاب القاعدة! لماذا لم تتعامل السلطة في قطر مع خطاب ابن لادن كما تعاملت مع قصيدة ابن الذيب؟! وأخيرا، هل توقفت الجزيرة عن ترويج خطاب الإرهاب بعد تلاشي القاعدة الأم؟

الحقيقة التي لا تخطئها العين، أن الجزيرة لم تتوقف، فكانت النتيجة لهذا الخط التطبيعي أن مضت -بعد تلاشي القاعدة- في ترويج خطاب العنف لأفرع القاعدة، كجبهة النصرة وغيرها، واستضافت -بكل صفاقة- زعيم جماعة النصرة أبو محمد الجولاني، وروجت لخطابه -ليس في مناظرة علمية- بل في مقابلة متلفزة مع مذيعها أحمد منصور في حلقتين، وكانت الحلقة مخصصة للحديث عن مشروع الجماعة وخططها المستقبلية!، وكان المقدم للبرنامج يلقي عليه بعض الإشكالات عن فكر القاعدة ورؤيتها، ثم يمنحه المساحة الكبيرة ليدافع عن هذه الجماعة وينظّر لها، ويحاول أن يؤصّل فكرها من القرآن والسنة، فخرجت الجبهة من هذه اللقاء -وهي تبدو للمتابع- جماعة رومانسية تهتف للحب والسلام!.

لم ينته مسلسل الإرهاب الإعلامي بعد، فبعد قطع العلاقات مع دولة قطر، ونفاد الصبر الجميل، خلعت الجزيرة قناعها وباتت تتماهى تماما مع خطاب القاعدة، فبدأت تتحدث في تقاريرها المكثفة عن «علماء السلطان» وعن «إرهاب الدولة»، في لغة ساخرة مبتذلة تشبه إلى حد كبير لغة سعد الفقيه والمسعري، وكأنهما صارا من محرري تقاريرها، أو قد صارا بالفعل.

أما مقدمو البرامج فيها، فذهبت كل القيم التي كانوا يتمثلونها زمنا طويلا وخدعوا بها المشاهد، وانخرطوا في سباق محموم عبر منابرهم -الرسمية والشخصية- للحط من هذا البلد والسخرية بمقدراته ورجاله، ومحاولة نشر الإشاعات المغرضة لتقويض حالة السلم والأمن فيه.

بعد كل هذا، يبقى السؤال الصعب: هل للجزيرة علاقة وثيقة بالإرهاب لم نكتشفها بعد؟