اعتاد الكتاب أن يقولوا في مقدمة قصصهم: إن كل ما في القصة لا يمت إلى الواقع بصلة، كبرت وعرفت أنهم يكذبون!

من تلك القصص حكاية أم أحمد على لسان حفيدتها التي قالت، جدتي سيدة عاشت حكايات كثيرة ممتدة بعمق أيامها التي تصارعت معها، هل يمكن أن يحمل الإنسان ذنوبا قبل أن يولد؟!

كان هذا السؤال الذي طالما رددته صديقتها فضة حين يكون الحديث توبيخا على خطأ ما حدث!

عادت لسنوات طفولتها التي وعت فيها على مرارة أنها مختلفة، ولكن بشكل لا يحمد فيه الاختلاف، فهي ليست حرة أبدا!

في الطفولة كلنا متشابهون، فلا نعرف ما يميزنا عن غيرنا ولا ما يميزهم عنا؛ ولكن جدتي التي لا أعرف اسمها الحقيقي، اختاروا لها اسما وكان هو سعيدة، سعيدة من السعادة وربما لأنهم يكررون المثل (الله يهني سعيد بسعيدة) طالما تحدثت عن أمنياتها الذابلة بمعرفة أمها وأبيها، أو حتى الوطن الذي كان مسقط رأسها، كانت أسئلتها ترتد دون جدوى، وكأنما ولدت في أسر الأيام والأسئلة مستحيلة الحل!

قالت لي يوما: أبشع جريمة ارتكبها الإنسان هي أنهم يخطفوننا ونحن أطفال لا نملك ذاكرة.

قلت لها: ربما كانت الذاكرة هي اللعنة التي يتجنبون أن تحل بهم، أو حتى لو حاولتم الفرار فلن تجدوا وجهة تهربون إليها!

أجابت سيدة في المنزل الواسع الذي يملكه تاجر الرقيق على سؤال جدتي عندما اجتمعتا صدفة، قائلة كنت طفلة يا سعيدة تتكلمين اللغة السواحلية وهي لغة تضم دول الساحل الإفريقي.

الساحل! كان نقطة الاختطاف الأولى، ولغته وجع يجمعنا نحن من كتب علينا شقاء العبودية!

تلك السيدة اجتمعت بجدتي في عملية بيع بائسة، كانت جدتي تبكي بمرارة لأنها كانت قد تزوجت من رجل فقير دفع ما يملكه ثمنا لها لتكون زوجة له، حملها إلى مدينة بعيدة على الحدود ظنت أنها تحررت حتى أنجبت طفلتها الأولى؛ لكن لعنة الطمع واللون التي صبغت الشمس به أسلافها لاحقتها فاختطفت مرة أخرى لتباع حريتها مرتين!

في بيت ثري من أثرياء العاصمة بقيت سعيدة تبكي وهي تقسم أنها حرة وزوجة، لكن تاجر الرقيق يذكر أنه باعها قبل، فمن أين جاءت الحرية؟!

تاجر الرقيق هذا كان يصفع البشر الذين قبض ثمن حريتهم مرات كثيرة، كان أحد أقاربه يحذره من مغبة قسوته ومن الصفعات التي على وجوه رسمت عليها لوحات من الفقر والغربة والهوان!

لو عرف الإنسان قيمة الحرية لصنع تمثالا لكل عبد آبق!

لا تحب أن تتذكر تفاصيل رحلة الرق، ولا شقاء الأعمال المضنية التي كانوا يقومون بها، لكني رجوتها أن تخبرني عن الذين هربوا، هل نجا منهم أحد؟

قالت لي طالما سمعت أن السفن التي تأتي محملة بالأشقياء يفر بعضهم فتلتهم الصحراء والشمس أجسادهم تارة وينجو بعضهم، ولكنهم يخفون حكايات فرارهم ويذوبون في وطن لم يختاروا الهجرة إليه، لكنهم يحملون ولاء واحدا للونهم الذي اعتبروه قبيلة!

مع الرق جمع كل درجات اللون وكانت المرأة البيضاء تعتبر خارجية أو كما اشتهر على عجمة ألسنة القادمين الجدد، يا ابنتي فبقيت (كارجية)، فضة كانت أحسن حظا من لون سعيدة لأن لونها الأبيض ضمن لها حريتها للأبد بعد عبودية ذات حين، ألا يقولون: إن اللون عون!

مرت السنوات ونلنا حريتنا بقرار عظيم حرر أجسادنا، حتى أسموا حلة العبيد بحلة الأحرار، كان قرارا عظيما، والحاكم العظيم يدرك أعظم القرارات التي يحتاجها بلده.

تأملت في المفارقة بين حديث جدتي وما يحدث اليوم، العالم يرفض المهاجرين من السواحل ويعيدهم إلى بلادهم وهم يستمرون في المحاولة حتى الموت لأنهم يريدون السفر إلى حياة أفضل، ولأن الأوطان أصبحت تنوء بحمل المهاجرين، لكن السفن ذاتها ما تزال هي الطريق غير الآمن!

أكملت: مرت سنوات الشقاء، لكن بقي من الشقاء أن هناك من الناس من يلومنا على ما حلّ بنا، ويسخر منّا؛ ومنهم من يعتبر ألواننا لعنة أخلاقية، لكن أتعلمين يا ابنتي بعد هذا العمر الذي فقدت فيه الكثير لا أجد أسوأ من الإنسان الذي نزع الله منه الرفق بأخيه الإنسان!

أنهت أم أحمد الحديث، وتشبثت بكرسيها المتحرك الذي أقعدتها عليه قسوة معاناتها!

وكأنها تستجدي ما تبقى من رحمة البشر!