أتيحت لي خلال سفري للولايات المتحدة الشهر الماضي ملامسة تجارب بعض المبتعثات عن قرب وسأعرض لكم ما بين وقت وآخر أوراقا من دفاترهن:

أتأرجح يوميا مع إيقاعات قطار الميترو الذي ينقلني إلى جامعتي، الخبرة الطويلة في التعاطي مع القطارات تمكنني من الحصول على قسط من النوم أثناء رحلة القطار الطويلة لأستيقظ تماما مع وصوله لمحطتي، وكأنني ساعة مؤقتة على موعد الوصول. ألملم حاجياتي سريعا وأتلفع بشالي الصوفي، وآخذ نفسا عميقا وكأنني أدخل إلى ساحة معركة وليس حرما جامعيا.. أراقب حركاتي وسكناتي، وأتحول إلى رادار متحرك مستعد لرصد أدق الإيماءات والحركات ثم محاولة تفسيرها. رغم عدم اهتمام الناس بالشكل والملابس هنا، إلا أنني لا أستطيع التخلص من الاهتمام المرضي بمظهري. رغم مرور سنتين على دراستي هنا في بيئة مختلطة إلا أنني ما زلت أضبط نفسي متلبسة بالارتباك والشعور بالخوف والخجل كلما اضطررت للحديث مع زميل أو أستاذ. أجاهد عقلي الباطن المحمل بفكرة الفريسة التي تخشى دوما من انقضاض الذئاب عليها، وأعيد تذكير نفسي أنني في ثقافة تنظر للمرأة بطريقة مختلفة. لا تزال فكرة كوني فتنة وغواية تتحرك على قدمين تسكنني رغم أن كل ما حولي ينفيها! أستعيد رغما عني مشاعري عند دخولي لمكان فيه رجال هناك، وكيف يستطيع مجرد خيال عباءة سوداء قلب عالي الدنيا سافلها، وإدارة الرؤوس وتحريك جذوة الخيالات المريضة والنظرات الطائشة المتسكعة ذهابا وإيابا فوق العباءة وما قد يبدو منها، وفوق النقاب بحثا عما قد يشي به من ملامح!

أحكم شالي الصوفي على رقبتي وأعيد التأكد من عدم فرار خصلة من شعري من تحت غطاء الرأس في حين غفلة مني؛ لأكتشف أنني الوحيدة التي أعيرني الانتباه، بينما ينشغل الجميع عني ولا يلفت وجودي أحدا! أستعيد كلمات صديقتي الهندية وهي تؤكد لي أن الرجل هنا لا يستطيع مضايقة المرأة؛ بل لا يستطيع التحديق بها أو تكرار النظرة خوفا من الاتهام بالتحرش الجنسي بزميلته، فالقوانين صارمة جدا فيما يتعلق بالتحرش. أستعيد تحذيرات أمي ومخاوفها وهي التي اعترضت كثيرا على دراستي وحدي في أميركا، بعد اضطرار أبي للعودة للوطن بعد أن أطمأن على وضعي؛ ورغم أن وجودي هنا أكد لي عدم صحة هواجسها إلا أنني ألوك تلك المخاوف – لا إراديا – ما بين حين وآخر. تخنقني الحرية التي أعطيت لي فجأة وأشعر أنها مسؤولية ثقيلة أنوء بأعبائها؛ وأبحث عن العلبة المخملية التي اعتدت أن أحفظ فيها كجوهرة مكنونة بحثا عن الأمان. أجد نفسي وحدي في عراء الحرية وفضاءاتها الممتدة بلا حدود، أتوجه إلى الله وأفر إليه من الخوف والغربة وإرهاق الدراسة وأعبائها الممتدة بلا نهاية. تملؤني مشاعر متناقضة فرغم حنيني لحياة الدعة والكسل ووجود من يخدمني ومن أوكله أموري دائما، إلا أن عبق أنفاس الحرية يشعرني بآدميتي وبأنني إنسانة شرفها الله بالحرية والقدرة على الاختيار.. تستقيظ داخلي المسؤولية الفردية التي أماتتها الوصاية والرقابة..

أتأرجح بين مختلف المشاعر المتناقضة وصور المقارنة بين هنا وهناك.

وفي الغد بقية.