أجرى عدد من علماء سيكيولوجيا الاجتماع بقيادة هنري تاشفيل Henri Tajfel تجربة كالتالي: تم عرض لوحتين من الفن الحديث على أطفال مدارس في عمر اثنتي عشرة سنة، وطلب من كل طالب أن يختار لوحته المفضلة. بناء على هذا الاختيار تم تشكيل مجموعتين من الطلاب، مجموعة الطلاب الذين اختاروا اللوحة «أ» ومجموعة الطلاب الذين اختاروا اللوحة «ب»، [ لاحظ هنا أن اللوحتين من الفن الحديث وبالتالي فهما لا يحملان معهما أي رمزية تاريخية أو اجتماعية إضافية، وبالتالي فإن المجموعتين الجديدتين بدون خلفيات زائدة على الاختيار الفني البحت أو الصدفة]. تسعى الدراسة هنا لمعرفة ما تأثير فكرة المجموعة الجديدة على الأفراد الذين انضموا لها للتو. سيكون من المهم هنا فحص التغير الذي سيطرأ على سلوك الأفراد بعد انتمائهم لجماعة جديدة ولا تعني لهم الشيء الكثير. هنا نحن أمام جماعتين بلا تاريخ صراع ولا منافسة.

 الاختبار كان كالتالي: تم عرض خيارات مالية على أفراد المجموعتين بحيث يرتبط ما يحصل عليه الفرد من المجموعة «أ» بما يحصل عليه الفرد من المجموعة «ب». كانت الخيارات كالتالي:

 [7:1, 8:3, 9:5, 10:7, 11:9, 12:11, 13:13, 14:15, 15:17, 16:19, 17:21, 18:23, 19:25]

الخيار الأول يعني أن يحصل الفرد من المجموعة الأولى على سبعة جنيهات بينما يحصل الفرد من المجموعة الثانية على جنيه واحد. الخيار الأخير يعني أن يحصل الفرد من المجموعة الأولى على 19 جنيها، بينما يحصل الفرد من المجموعة الثانية على خمسة وعشرين جنيها. كيف سيختار الأفراد؟ هل سيتحرك الأفراد بناء على مبدأ تحصيل أكبر فائدة شخصية، والذي سيعني اختيار الخيار الأخير بحيث يحصل الفرد على 19 جنيها وهو أعلى رقم متاح للمجموعة الأولى؟ أم أن الأفراد سيختارون بناء على مبدأ الإنصاف والمساواة ويختارون الخيار الأوسط بحيث يحصل الفرد من المجموعة الأولى على 13 جنيها والفرد من المجموعة الثانية على ذات المبلغ؟

النتائج أظهرت أن العامل الأقوى في الاختيار كان تفضيل أفراد المجموعة على غيرهم. هذا يعني أن أفراد المجموعة لم يختاروا الخيار الأخير رغم أنه الأكثر ربحية لهم وفضلوا الخيارات التي تبقي على دخل الفرد أعلى من أفراد المجموعة الأخرى. هذه العملية وصلت إلى أن يكون العامل الثاني في الاختيار كان أعلى فرق ممكن بين الذات والآخر، وهذا ما يتحقق في الخيار الأول 7:1 رغم أنه يعني الحصول على الدخل الأقل. العامل الثالث في خيارات الأفراد كان الميل للعدالة واختيار 13:13.

 هذه النتائج وشبيهاتها أسست لنظرية الهوية الاجتماعية Social Identity Theory والتي تقوم ضد نظرية الصراع الواقعي Realistic Conflict Group Theory والتي تقول بأن سلوك الأفراد داخل الصراع الجماعي قائم على فكرة المصلحة الذاتية بمنطق واقعي. نظرية الهوية الاجتماعية تقول إن سلوك الأفراد يميل إلى تفضيل الذات والجماعة التي تنتمي لها الذات على المجموعات الأخرى، حتى ولو كان ذلك على حساب مصالح الذات. بمعنى أن الأفراد يقبلون بالأقل إذا كان ذلك يعني أنه لا أحد سيحصل على أكثر مما حصلوا عليه. النظرية تقول أكثر من ذلك بكثير فهي تؤكد على أن آلية الميل إلى تفضيل الذات على الآخر لا تحتاج إلى صراع أو تنافس أو أفكار عدائية أو ندرة في الموارد ولكنها فقط تحتاج إلى عملية تشكيل جماعتين في الذات: جماعة الذات وجماعة الآخر. من هنا نفهم أهمية وربما خطورة عملية صناعة الآخر.

 لاحظت دراسات إضافية إلى ميل أفراد الجماعة للمبالغة في تقدير التشابه بينهم وكذلك المبالغة في تصور الاختلاف مع الآخرين. هذا ملاحظ فحين تستمع للخطابات الأممية أو الجماعية بشكل عام يصلك شعور بأن الآخر الذين يتحدثون عنه قادم من كوكب آخر بينما هو في الواقع لا يبعد كثيرا، بل لا يختلف كثيرا عن خصائص الذات. هذا الشعور المتعاظم بالفرق بين الذات والآخر حين يعمل بصحبة تفضيل الذات على الآخر يؤدي إلى كل ما نعرفه من الصور النمطية والتمييز ضد أفراد الجماعات الأخرى، كما يمتد إلى العنف تجاه الآخر بكل درجات ذلك العنف.

 عملية صناعة الآخر عملية مركبة ومعقدة وربما أتعرض إلى بعض تفصيلاتها في المقالات القادمة، ولكن ما يهمنا هنا في هذه المقدمة التأكيد على وجود وأهمية علميات صناعة الآخر. الآخر ليس بالضرورة آخر بالطبيعة بقدر ما قد تكون آخريته ليست سوى صناعة وهندسة اجتماعية يمكن مراقبتها وبالتالي التدخل فيها. الحديث هنا في إطار الهويات الجماعية وليس عن الأفق الأولي الذاتي الذي ينظر للذات الأخرى باعتبارها آخر. هذه حكاية مختلفة ولكنها مرتبطة لعلنا نتحدث عنها لاحقا بمساعدة فيلسوف الآخر/ية إيمانويل ليفيناز. كذلك من المهم الحديث عن الآليات الاجتماعية التي تتحرك باتجاه الصناعة السلبية للآخر. أعني بذلك السلوك الاجتماعي الذي يحتفي ويعتني بالآخر ويدعو لاحترامه وحفظ حقوقه. السلوك الذي يجعل من الآخرية هدية ونعمة يجب عليه شكرها بدلا من تدميرها والقضاء عليها.