نقول حين نتكلم كالمثاليين: إن العمل – سواء أكان عملا ذا أجر، أم عملا تطوعياً عاما - أهم العوامل التي تساعد الإنسان في تحقيق ذاته، وتطوير أدواته، والشعور بوجوده وأهمية دوره، وبالتالي يجعله سعيداً، ومقبلا على الحياة، ومحبّا للأحياء، وفاعلا في التنمية وصناعة الحضارة؛ وذلك يعني أن العمل يحقق إشباعين: أحدهما مادي، والآخر نفسي.

هذه الإيجابيات المترتّبة على نهوض الإنسان بعمل ما، تتحول – حتما - إلى أضدادها في حال البطالة وعدم وجود عمل، وقد تتحول إلى أضدادها – أيضا - في حال وجود عمل في بيئة ملوثة بفسادٍ من النوع المركّب، فعلى الرغم من وجود العمل، إلا أن غياب قيمِه المعروفة، يجعل العمل يُفقد الإنسانَ قيمته، ويبدّد طاقاته، ويقلب مفاهيمه، ويغير سلوكياته إلى الأسوأ، عوضاً عن أن يكون العمل سببا رئيساً في تحقيق ذاته، وتطوير خبراته.

تتحول إيجابيات العمل إلى أضدادها، وتتهاوى الأحلام، حين يكتشف العامل أن إخلاصه وشغفه بالتطوير والابتكار، لا يعودان عليه بأي مكاسب مادية أو معنوية، بل إنها قد تتسبب له في أضرار غير متوقعة، فيعود عليه إحسانه بالسوء، فيما يشهد بعينيه أن المهملين والمرتشين والمنافقين والمختلسين والمتكلسين والفارغين قد حصلوا على ترقيات سريعة، ووصلوا إلى مواقع قيادية، وبنوا قصوراً، وسافروا إلى مشارق الأرض ومغاربها، مما يقلب هرمَ القيم في عينيه، ويجعله يتراخى، وتلك أقل الأحوال ضرراً، أو يحاول أن يفعل مثلما يفعل الكاسبون المترقّون، فيصبح فاسداً مستجداً، أو يتحول إلى حانق ناقم على كلّ شيء، وهي حال خطيرة على المستويات كلها.

تصبح إيجابيات العمل سلبيات، وتتهاوى الأحلام، حين يشهد العامل الشاب رئيسَه يمارس العنصرية في أكثر صورها وقاحة، فيقرّب الأقارب وأبناء القبيلة أو أبناء العمومة، ويمنحهم الوظائف والامتيازات والصلاحيات والمسميات الوظيفية القيادية، وربّما وهبهم من الصلاحيات ما يخوّلهم التحكّم في مصائر الموظفين الآخرين، وفي الوقت نفسه يتصيد – بمساعدة الأقارب - أخطاء الأباعد، وقد يعمل على تكبير الصغائر، أو يختلق لهم الأخطاء اختلاقاً، في إطار سعيه - بالطرق كلها - إلى إبعادهم عن أعمالهم لإحلال الأقارب في أماكنهم، وفي مثل هذه الحال لن يجدي العاملَ صبرٌ أو مجاملات أو إخلاص أو منجزات أو تفان؛ لأن المعيار العنصري في بيئات العمل ظالمٌ ظلماً بيّنا؛ ذلك أنه يُفقد الموظف الأمل في الإنصاف، وهو ما قد يجبره على الاستقالة التي تصبح الحياةُ بعدها شعوراً دائماً بالظلم الذي يولّد حنقاً لا يبقي ولا يذر.

تهاوي الأحلام لا يقف عند الأعمال الرسمية التي يتقاضى أصحابها عليها أجورا، وإنما يتجاوزها إلى الأعمال التطوعية، وأعمال الخدمة العامة التي تستهوي الشباب؛ فمحبو هذا النوع من الأعمال لا يريدون سوى المعنويات، كالوفاء، والتقدير والشكر، وباقي أشكال الدعم بالكلام، وقد يتنازلون عن هذه الأشياء المعنوية انطلاقا من أنهم لا يريدون جزاء ولا شكورا، بقدر رغبتهم في خدمة مجتمعاتهم وأوطانهم، كما أنهم قد يتناسون الجحود غير عابئين بآلامه، إلا أنهم يتحولون إلى سلبيين حقيقيين، عندما تُقلب حسناتهم إلى سيئات، وذلك حين يتعاورهم الوشاة، فيُعاقبون على ذنوبٍ لم يرتكبوها، أو يُحاسبون على محاولات إصلاح، أو يتعرّضون إلى شكلٍ من أشكال القمع الهادف إلى إبعادهم عن منظومات العمل العام، مما يقودهم إلى العزلة والانكفاء، ويجعلهم ينظرون إلى الحياة والناس بمنظار قاتم، وتلك درجة عليا من درجات السلبية.

تهاوي أحلام الشباب قد يمتد إلى الإبداع، فمحاسبة شاعر شاب على معانيه وصوره التي احتوتها قصيدة جميلة،

قد تجعله يتوقف عن كتابة الشعر ما دام حياً، أو أنه يصير شاعراً بلا شعر ولا شعور ولا إبداع، فينطق بلسانِ تيارٍ ما، ويكتب الشعر كما يريده المتربصون بالإبداع، وكما يحب الخائفون من الخروج على قوانينهم التي يريدون لها السيادة، تمهيداً لسيادة أخرى، وتوبيخ كاتب شاب بسبب نقده مسؤولا خدميا، قد يُحدث لديه خللا في فهم جدوى الكتابة المقالية الناقدة، ويحوّله إلى «بوق» أو «طبل» أو «ملمِّع» لكل مسؤول مهمل فاشل ليس له من المنجزات سوى استقطاب وسائل الإعلام، وهذا الشكل من أشكال التهاوي تكريس خطير للانحراف الأخلاقي الماثل في ضياع أمانة الحرف، وهو ما يفسّر كون بعض الكتّاب والإعلاميين الشباب صاروا «مطبّلين» بصورة مقززة تسيء إلى الأوطان وتضر بالتنمية ضررا كبيرا.

وتتهاوى أحلام الشابة المقبلة على العمل، حين تصطدم بدعوات بقائها في بيتها، وتجريم عملها أو تحريمه، أو دعوات عدم أهليتها، وهي دعوات مهينة للمرأة الطامحة بوصفها جنساً، مما يجعل إقدام بعضهن على العمل مشوباً بشيء من الشعور بالذنب، وذلك يحوّلها إلى «عمالة زائدة» إن هي استمرت في العمل، أو يجبرها على السلبية، وترك العمل، وبالتالي فقد الذات الذي يُفقد المجتمع والوطن نصف طاقتهما البشرية.

عند النظر يمينا ويسارا، نجد حولنا نماذج كثيرة للحالات المرصودة في هذا المقال، وهي ليست حالات فردية بالمعنى الدقيق، وإنما هي ظواهر عامة؛ لأنها موجودة في جل مؤسساتنا ومناطقنا ومجتمعاتنا، وبرغم وجودها، ما زال اللائمون يلقون باللائمة على الشباب، ويتهمونهم بالفشل، فأي ظلم هذا!؟

علينا إيجاد مؤسسات رقابية حكومية فاعلة للحد من أسباب وجود هذه الحالات والممارسات التي تعطلنا، و«نا» هنا ضمير متكلمين باسم وطن يستحق أن نقف من أجله أمام كل البراجماتيين الفرديين، والفاسدين، ومحوّري القيم، ومعتسفي الأنظمة بما يتسق ومصالحهم الخاصة.