ماذا سيقول فيلسوف الغيرية إيمانويل ليفيناز عن مفهوم «صناعة الآخر» كما ورد في المقالة السابقة؟ أي أن الأفراد يفكرون في أنفسهم وفي الآخرين بطريقة مختلفة، سلبية غالبا ضد الآخر، بمجرد الانتماء إلى جماعات «نحن» و«الآخر». كانت دراسات هنري تاشفيل تشير إلى أن الفرد ممكن أن يتنازل عن مكاسب شخصية محتملة لضمان بقائه الأفضل حالا مقارنة بالآخرين من الجماعات الأخرى، حتى في غياب أسباب عميقة للتمييز بين الذات والآخر. هذا المنطق أساس التمييز ضد الآخر والتعدي على حقوقه كما أنه أساس العنصرية والتصورات النمطية تجاه الآخرين. سؤالنا هنا: هل هذه هي كل العلاقة مع الآخر؟ وهل الآخرية تتم فقط بهذه الطريقة دائما؟ وتقود إلى هذه النتائج فقط؟ مع ليفيناز يمكننا أن نجيب بالنفي عن الأسئلة الأخيرة، ويجعلنا نسأل ما الذي غاب عن أطروحة تاشفيل؟ مع ليفيناز نقول الآخر ليس منتجا اجتماعيا أو منتجا لصناعة وإجراءات بل الآخر سابق على الذات.

هنا نفكر في مستوى أولي وسابق لمعنى الآخرية. سيكون من المناسب التمييز بين مستويين من الآخرية: المستوى الاجتماعي والمستوى الأخلاقي. المستوى الاجتماعي من الآخرية يشير إلى الآخر الذي ينتج عن التشكيلات والإجراءات الاجتماعية. الآخر هنا جزء من «هم» والذات جزء من «نحن». «هم» و«نحن» هي أساس هذا التقسيم وليست «الذات» و«الآخر». هذا ينطبق على التقسيمات الجماعية بأشكالها المختلفة والتي تعتمد على العرق، الدين، الثقافة، اللغة وباقي كافة الانتماءات. في المقابل هناك الآخرية والغيرية على المستوى الفردي، الذي تظهر فيه الذات مقابل الآخر ليس باعتبار انتماءات سابقة للذات والآخر بل باعتبار الانفصال بين الذات والآخر على المستوى الفردي. هذا المستوى يمكن تسميته بالمستوى الأخلاقي باعتبار أنه يحيل إلى العلاقة الأولية بين الذات والآخر قبل التقسيمات الاجتماعية.

المستويان السابقان يحيلان إلى طرفي العلاقة مع الآخر: الحرب والضيافة. نعلم أن تاريخ الإنسان مع الإنسان تراوح بين هذين الطرفين. التاريخ مليء بالحروب والعداوات بين البشر، لكنه أيضا مليء بمشاهد الضيافة التي تحتفي وترعى وتعتني بالآخر. الآخر في المستوى الاجتماعي يتم رده إلى قالب ذهني، وهذا هو أساس العنف كما يشرحه ليفيناز. أساس العنف هو رد الآخر للذات، وهذا ما يحدث مع الآخرية على المستوى الاجتماعي. رد الآخر للذات يعني أن يتم وضع الآخر في قالب ذهني يتوافق مع فهم ومنطق الذات. هذه العملية تقضي على الآخرية والغيرية، فتجعل الآخر «معلوما». هذه العملية تمثل شكلا من أشكال هيمنة الذات على ما حولها. الذات هنا تريد أن تسيطر على ما حولها، كل ما حولها يتحول إلى جزء منها من خلال إرفاقه بتقسيمات ذاتية. بهذا الشكل تكون علمية صناعة الآخر عملية ضد الغيرية وضد الآخرية. الآخر في هذه العملية يعني «ليس منا»، وهذا إجراء ناتج عن الإرادة الذاتية الجماعية. الآخر هنا عدو وبدرجات أخف: منافس وخصم.

في المقابل لدينا المستوى الآخر من الآخرية وهو ما يمكن تسميته بالمستوى الأخلاقي والذي تكون الذات فيه سلبية تجاه الآخر. سلبيا هنا تعني أن الذات لا تملك إرادة في تحديد الذات. الذات هنا تستقبل الآخر ولا تصنعه. الآخر في هذا المستوى ليس نتيجة حسابات وانحيازات اجتماعية، بل نتيجة حقيقة الانفصال بين الذوات البشرية. نتيجة حقيقة أن الآخر لا يمكن رده للذات أو الاستحواذ عليه. الآخر هنا نتيجة حقيقة الجوار مع الذات واستحالة الانقطاع عنها. المشاعر التي تنتج عن هذه العلاقة بين الذات والآخر هي مشاعر الرحمة والعطف والمواساة والمساعدة، والتي هي جزء من التاريخ البشري. الآخر هنا هو كائن تجب العناية به كما في الضيافة. من مهام الذات هنا الحفاظ على آخرية الذات والدفاع عنها.

هنا، مع ليفيناز، ندرك حدود هنري تاشفيل عن صناعة الآخر. كل ما يساعدنا ليفيناز على قوله أن الظواهر التي قام عليها تحليل تاشفيل لا تستغرق كل علاقة الذات بالآخر. باختصار فإن تحليل تاشفيل اشتغل على جانب الحرب في علاقة الذات بالآخر. لكن الحرب ليست كل ما هناك. تاريخ الذات والآخر مليء بالضيافة كذلك. في هذا المستوى آخرية الآخر تنبع من وجهه ولا تنبع من إدراك الذات. وجه الآخر هنا هو علامة على الأفق اللامحدود للغيرية. وجه الآخر مشهد لمواجهة آخريته. لذا يهرب القتلة من النظر لوجه ضحاياهم. لغة وجه الآخر لا يمكن مواجهتها أو التغلب عليها في سياقات الفهم الذاتي. مشهد الذات مع وجه الآخر لا يمكن أن يخلو من الاستسلام والاستقبال. لا يمكن الهيمنة على وجه الآخر. لذا نواري النظر بعيدا حين نرفض مساعدة المتسول. وجه الآخر هنا علامة للذات بأنها ليست وحيدة وأن هذا الكون مليء بالجيران والأصدقاء الذين لا يمكن الهيمنة عليهم. علامة على وجود آخرين لا يمكن اختصارهم في تصنيفات اجتماعية للتعالي عليهم. بل آخرين نستمتع بالوجود معهم، بل هم متعة الوجود ذاته. هؤلاء الآخرون امتداد لمتعة حضن الأم الأولى ولذة الوجود معها.