نسب حسين



أتأمل عينيها.. أحاول أن أغيب في ذاك العمق، لعلّني أعرف ما الذي يعتمل في صدرها؟ يتجه نظري إلى المرأة التي تجاورها، أبحث عمّا يتخفى في نظراتها هي الأخرى، بعد لحظات أتركها وأنطلق في مرور سريع على العيون، ثم أهمس لنفسي ياه كم تتشابه النّظرات!

ما هذه النظرة التي أراها في العيون؟ أهي إصرار أم إيمان أم تعوّد على المواجهة والاحتمال؟ أم مزيجٌ من كلّ هذا؟

الجنود ورجال الشرطة يتزايدون، أمرّ من أمام المجموعة التي تسدّ ساحة الإمام الغزالي ـ المؤدية إلى المسجد الأقصى ـ ماذا لو لم يكونوا هنا؟ كنتُ حين يغربون عن وجهي في مدخل المسجد، سأتنفس الهواء العليل داخل الباحات، وسأمرّ بأشجار الزيتون صعودًا للوصول إلى مصطبة قبة الصخرة. كانت تلك النظرات التي حولي ستختلف، ستكون أكثر بهجة وطمأنينة، رغم وجود بعض الجولات للشرطة الإسرائيلية داخل الباحات، لكنّني سأبقى مثل غيري من أبناء المدينة قادرة على أن أفرح وأفتخر بأنّ هذه البقعة من الأرض لنا، ناجية من التهويد.  أعود للنظر صوب رجال الشرطة والجنود بهذه الوقفة المتعنتة، الحارسة للبوابات الآلية، يبدون كحراس لآلهة بوقفتهم وحمايتهم لها. أمرّ خارجة من باب الأسباط لأجلس على رصيف قريب، قرب من تبقى من مرابطين بعد صلاة العصر، أتأمل الباب وأتساءل هل اشتاق لسكان المدينة ليحصل كلّ هذا ويغدو عنوانا للّقاء اليومي قربه؟ فمن عاداتنا التّجمع واللّقاء قرب بابي العمود والسّاهرة وأحيانا باب الخليل، والمرور السّريع هو نصيب الأبواب الأربعة الأخرى. لم تجمعني طيلة سنوات وجودي في القدس مع هذا الباب سوى جلسة تأملية واحدة، لتأمل فنيّة بنائه خلال دراستي الجامعيّة، وإعادة استخدام شعار «السباع» للظاهر بيبرس، ليظهر في السّور فوق الباب ويمنحه أحد أسمائه «باب الأسود»، بالإضافة إلى فنون معمارية عثمانية أخرى. وها هو الآن يشهد تواجدا دائما لبعض سكان المدينة ومحبيها، سمعتُ أحدهم يقول للآخر لحظة مروري: «حاسس إنه صار ينشحد علينا»، أوجعتني جملته، أردت أن أقول له «لا تقل هذا يا أخي». ها هم بانتظار الصلاة المقبلة، وقد يكون البعض ليس متدينا وليس محافظا على تأدية الصلوات الخمس، لكن في هذه الأيام يحضرون ويرابطون بانتظار الصلاة، ففي هذه الأيام تصبح الصلاة أهمّ واجب وطني. أعاود دخول باب الأسباط للجلوس في طريق المجاهدين، حيث افترش المعظم وجلس عليها شاخصا بعينيه، أو قارئا بقرآنه أو متحاورًا مع من حوله، فيما أعود أنا إلى أوراقي، إلى يوميات مع المدينة أحاول رصدها، يأخذني منها ضيق الحرّ الشديد، حين لا تتسع مناطق الظلّ للجميع، أو مرور أصحاب النعال الثّقال حين يمضون بيننا ببنادقهم في ذهاب وإياب، أو أيدٍ لأبناء مدينتنا توزّع ضيافة على الجميع، وكنتُ ظننتها تكتفي بوجبة الغداء، فإذ بها تظهر كلّ حين محملة بالماء والبوظة والفاكهة والعصائر والكعك، فأبتسم سيفهمني الكثيرون هذه المرّة حين أخبرهم، أنّني أشعر بأنّ القدس القديمة بيتي. لكن حين تطلّ أسئلة الكلمات على الأوراق عمّا هو مقبل؟ سائلة كم من الشهداء سيمرّون في طرقاتنا بعد؟ وإلى أين نمضي؟

أرفع نظري لأغيب في نظرات من حولي مرّة أخرى، وسيطول وقت تأملي لساعات وأيام مقبلة، أحيانا من مسافات قريبة وأحيانا من مسافات أبعد.. حين ترتفع السبّابة هاتفة، وحين تبدأ الأقدام بالركض باحثة عن مأمن،  غير متأكدة ما الذي سيأتيها من فوق، أقنبلة غاز؟ أم صوت؟ أم رصاص مطاطي أم مياه عادمة؟ وتعود رغم كلّ شيء إلى الوقفة ذاتها، وإلى النبض الموحد ذاته.

قد يتساءل ناظر من بعيد، لم العودة ألا تخشون على أرواحكم؟ لكنّ الإجابة واضحة هذه المرّة: إذا خسرنا الأقصى فما الذي سيبقى لنا؟

أغادر البلدة القديمة، أعود لقراءة الكتابات على جدران الشوارع مرّة أخرى، معظمها منذ الهبّة الأخيرة مثل «الانتفاضة مستمرة حتّى التحرير»، أسئلة وهواجس كثيرة كانت تراودني كلّما قرأتُ هذه العبارة التي شعرتُها أكبر من قدرتنا على المواجهة، أتساءل الآن عن شعوري وأنا أقرأ هذه العبارة، فتلوح القبّة الذهبية في ذاكرتي، أبتسم للمدينة وأهمس: «كم نصبح أقوى حين نكون معًا.. وتشحن العيون بعضها بعضًا، إصرارا وأملا».