العطلة الصيفية المدرسية هذا العام طويلة، بسبب اجتماع الصيف مع عيدي الفطر والأضحى، وعطلة العيدين لدينا في المملكة تأخذ وقتاً أطول منها في باقي البلدان العربية والإسلامية.

ومن غير حساب عطلة العيدين فإن العطلة الصيفية المعتادة مدرسيا في العالم كله طويلة، تتراوح مدتها في البلدان المختلفة بين ستة أسابيع وأحد عشر أسبوعا وقد تزيد عن ذلك قليلا.

وإذا كانت العطلة المدرسية تثير أسئلة مختلفة حول تاريخ فكرتها، وضرورتها، وسبب امتياز التعليم بها، فإن فكرة العطلات والإجازات من العمل في العموم، مجال لطرح أسئلة مشابهة.

من أين جاءت فكرة العطلات؟ هل هي حديثة أم قديمة؟ لماذا يأخذ العالم كله بها الآن؟ وكيف تتنوع وتختلف وكيف تتشابه وتتفق؟ وما قيمتها للفرد وما قيمتها للمجتمع؟

نشرت مجلة تايم الأميركية في عددها بتاريخ 19 يونيو 2008، مقالا عن تاريخ العطلة الصيفية، يقرر أنها لم تكن حقاً مكتسبا لتلاميذ المدارس في الولايات المتحدة الأميركية.

ففي القرن التاسع عشر، كانت المدارس في العقود التي سبقت الحرب الأهلية (1960-1965) تختلف بين الحاضرة والريف.

في الريف يكون التعليم في فصلي الصيف والشتاء، ويُترك للأطفال حرية الحركة في مواسم الزراعة والحصاد في الربيع والخريف. وفي المناطق الحضرية يتحمل الطلاب 48 أسبوعاً من الدراسة في السنة، مع استراحة واحدة كل ربع من أرباع السنة.

وفي الأربعينات من القرن التاسع عشر تحرك المصلحون التربويون، وعلى رأسهم هوراس مان الذي يوصف بأنه أبو التعليم في أميركا (وبعض أبرز مبادئ التعليم المدني في العالم إلى الآن هي مبادئه) إلى إلغاء الانفصال بين الريف والحاضرة في التقويم الدراسي، لعدم توافر الزمن الكافي للتعليم في المناطق الريفية.

وحضَرتْ لدى أولئك التربويين المُصلحين النظرية الطبية القائمة حالياً، التي ترتِّب على الإفراط في إجهاد عقول التلاميذ أخطاراً صحية وتربوية عليهم من قبيل الاضطرابات العصبية والاعتلال العقلي والنفسي.

وهنا برز «الصيف» من حيث هو وقت ملائم للراحة، سواء بحسابات الانسجام مع التقويم الزراعي، أم بالحسابات الطبية المتعلقة بمخاوف الأطباء من الفصول المكتظة بالطلاب في الصيف القائظ، أم بالحسابات المتعلقة بالمعلمين.

واستقرت العطلة الصيفية للمدارس –فيما يقول المقال- منذ أوائل القرن العشرين في أميركا.

ولا يختلف الأمر إذا ما عرفنا تجذُّر فكرة العطلة الصيفية في مكان أو زمان آخرَيْن؛ فالمهم أن فكرة العطلة الصيفية جزء من حداثة التعليم العام التربوية، تماماً كما هي إلزاميته، وأنها الآن جزء من تقاليد المؤسسات التعليمية في العالم أجمع.

وفي مقابل العطلات المدرسية، والعطلات العامة الأسبوعية والسنوية المتعلقة بالأعياد والمناسبات الوطنية، فإن عطلات الموظفين والعاملين في غير القطاع التعليمي، لها صفة فردية. وهي حق لهم تفرضه أنظمة العمل في مختلف أنحاء العالم، وإن اختلف عدد الأيام المستحقة، متراوحاً في الغالب بين 20-45 يوماً.

لم يكن أحد يعرف الحق العام في العطلات في العصور القديمة، وكان التوقف عن العمل يحدث عند إتمامه أو لتعذر ممارسته بحلول الليل أو لظروف الطقس، أو للحاجة إلى تناول الطعام، أو أخذ قسط من الراحة، أو للوقوع ضحية مرض... وما إلى ذلك.

العطلة التي تتيح للعموم التوقف عن العمل أو تفرضه عليهم، كانت منذ القديم دينية.

فأيام السبت من كل أسبوع عند اليهود، وأيام الأعياد السنوية لديهم، موضوع أمر ديني بالامتناع عن الكد والشغل مثلما هي موضوع أمر بالعبادة. ويوم الأحد عند المسيحيين، هو يوم عبادة وعطلة، وكذلك أيام أعيادهم السنوية.

والأمر نفسه لدى المسلمين، فيوم الجمعة يوم مميز أسبوعياً بصلاة الجمعة التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، أمراً بالسعي إليها وتركاً للبيع، ويوم الجمعة الأسبوعي لدى المسلمين مشابه للعيدين السنويين لديهم، في الامتياز بعبادة مخصوصة وفي التخفف من هموم الكدح الدنيوي والإقبال على تواجد روحي غامر.

ولا يوجد دين لا تقديس فيه لأعياد وعبادات أسبوعية أو سنوية، يشتغل فيها أتباعه بالاحتفال بها عن العمل الدنيوي، ويركنون إلى العطلة بحلول أوقاتها.

وإلى العطلات الدينية المفروضة منذ القدم وما فيها من طلب للبهجة وشعور بالسعادة، فقد كانت الطبقات الغنية قديما تستمتع بأوقات مقتطعة من زمنها للخروج إلى رحلات الصيد والاستجمام، وهذا معروف في ثقافتنا العربية منذ ما قبل الإسلام، وشائع لدى الأمم الأخرى.

وكانت الكرنفالات والمسابقات وأنواع العروض الراقصة والغنائية والمسلية متوارثة منذ أقدم العصور لدى الأمم جميعا، في دلالة على حاجات ضرورية إنسانياً خارج حيز العمل والكدح اليومي وموجباته النفعية ورتابته.

هكذا لم تعد تعني «العطلة» في معناها المتداول، مجرد التوقف عن العمل لفترة قصيرة من الزمن، بل هي التوقف عن العمل مؤقتا تعظيما لشعائر أو مناسبات دينية أو اجتماعية حيناً، وللراحة والاستجمام في معظم الأحيان. وأصبحت «الرحلة» لطلب المتعة والاستجمام جزءاً من دلالات العطلة التي لم تسجِّلها المعاجم العربية بعد، على نحو ما تفعل معاجم اللغات الأجنبية كما هو الحال في الإنجليزية مثلا.

وقد نذهب إلى حساب قيمة العطلة من منظور الإنتاجية التي تكتسب براحة الذوات المنتجة وتجدد مزاجهم طاقةً أكثر إنتاجاً وأدعى إلى الإلهام. وقد ننظر إلى العطلة من منظور الذوات نفسها التي تتحرر وتتجدد بخروجها آناً بعد آن من ربقة النمط والرتابة، فيتسع حسُّها بالوجود وتتنبَّه إلى منابع ذاتيتها التي تطمسها الآلية والمألوفية. وهذان جانبان لا يستقلان عما يحصده الكيان الاجتماعي من حيث هو مؤدى القوة وموئل ما تكتسبه مكوناته منها.

لكن المعنى الأعمق للعطلات بعد ذلك لا ينفصل عن الأفراد ولا عن المجتمعات من حيث هو معنى ثقافي نسبي متفاوت في كيفية الشعور به والإفادة منه، ومتفاوت في انعكاسه على التشريعات والأنظمة وعلى المرافق والوسائل والبنيات المادية، تماماً كما هو تفاوت الشعور بالعمل والحماس له بين المجتمعات والأفراد، وتمايز صرامة التشريعات بشأنه وعدالتها ومتطلبات الكفاءة فيها.

وأرى أن أكثر مشكلات العطلات بروزا لدينا، تبدو في النقاط الثلاث التالية:

أولها، في الفصل بين القطاعين العام والخاص في مجمل الحساب للوقت والتثمين له، وفي خصوص إدارة العطلات وتقنينها والصرامة بشأنها، فالقطاع الخاص يرهق موظفيه ويضيِّق عليهم، بأوقات عمل طويلة وأوقات عطلات شحيحة، قياسا على السعة التي يتيحها القطاع العام لموظفيه.

والثانية، في عدم توافر إمكانيات تحويل العطلات لدى معظم الناس إلى وقت للاستجمام والبهجة والإفادة؛ للغلاء الفاحش في قطاع الترفيه والسياحة، وعدم تكامل مرافقه وبنيته وتشريعاته، والاضطرار إلى تحمُّل أعباء السفر إلى الخارج.

والثالثة، قصور الثقافة الأسرية والشخصية في استثمار أوقات العطلات والتخطيط لها، وضآلة الرغبة في كسر رتابة الحياة اليومية، والإدراك لقيمة الوقت الحُر في الانتعاش والتجدد.

والمؤكَّد أن القصور في استثمار وقت العطلة لا ينفصل عن القصور في ثقافة العمل؛ فمن لا يُقدِّر قيمة العمل والجهد لن يعرف قيمة العطلة، ولن يعرف كيف يحولها إلى زمن بهيج في كل تفاصيله.