حينما انتقل إلى رحمة الله الفنان الكبير طلال مداح في أغسطس عام 2000 على مسرح المفتاحة بأبها، كنا في أوساطنا الاجتماعية نجد من يتعوذ من سوء الخاتمة، باعتبار وفاته تبدو كذلك، وكانت تلك الوفاة فرصة للشماتة والاستهزاء بإنسانيته قبل فنه، وتصوير الله -جلّت قدرته- كالمنتقم الذي يتحين الفرص من البشر الذين لم يكونوا على مقاييس من يَعُدّ نفسه قريبا من الألوهية بتقسيمه للرحمة والمصائر.

لم يكن التفاعل السايبيري عبر الإنترنت متاحا للجميع في تلك الأعوام، ولكن موجة الشماتة بوفاة طلال صارت مادة دسمة لخطب المنابر ومواعظ المدارس، وبقيت تتردد حتى اليوم في كل عام في ذكرى وفاته، خاصة عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، وكأنه مات بالأمس.

تكرر الأمر عند وفاة الدكتور غازي القصيبي -رحمه الله- في أغسطس عام 2010، ولسهولة تواصل الناس وقتها، فإن صورة ردات الفعل على خبر وفاته كانت أوضح للجميع، بين مقدر لفردانية هذا الإنسان وجهوده العظيمة، سياسيا وإداريا وأدبيا، وبين الفئة ذاتها التي تظن أن لها في الألوهية نصيبا، وتقسم رحمة الله ومغفرته وعذابه حسب معاييرها للبشر، فذلك مذنب، والآخر علماني، وغيرهم لم يكونوا نسخا تشبههم في عبوديتهم للتراث وانقيادهم لتفكير جمعي مؤدلج صاغته لهم فتوى أو حجة لا حجة فيها.

حورب غازي حيّا وميتا، وساحات الإنترنت مليئة بشواهد البغضاء المقيتة التي تتداول عنه حتى اليوم، وذكره ما زال يقسّم الناس -كما فعل طلال- بين منصف لإنسانيته ودوره في الحياة، وبين تابع باع عقله وتفكيره يقتات الكراهية، ويجاهر بها.

لم يختلف الأمر كثيرا عندما وصل خبر وفاة الفنان القدير عبدالحسين عبدالرضا -رحمه الله- الجمعة الماضي، فرغم اجتماع القلوب على محبته والحزن على فقده الكبير، وهو الإنسان الذي رافقنا منذ طفولتنا بفنّه الواعي والمؤثر، وشخصياته التي يعرفها كل منزل خليجي، وينتظرها من عمل لآخر، إلا أن خفافيش الكراهية تطل بثقة فيما تقول، وتعيد تقسيم رحمة الله وجنته وناره على البشر، وتحكم في مصائرهم.

فالفنان عبدالحسين عبدالرضا لا يستحق الرحمة، لأنه من المذهب الشيعي، وهذا كان كافيا لتداول تغريدات عبر «تويتر» منصة الملايين من البشر اليوم في تناقل الأخبار والأفكار، تنكر وتحرّم الترحم عليه، باعتباره كافرا بسبب مذهبه، وتشمت بموته، وتستنكر محبة الناس له.

هذه الكراهية لم تكن ساحتها «تويتر» وحسب، بل عبر الوسائل كافة، وقد لا يخلو هاتف أحدنا من مجموعة استنكر فيها أحد المؤدلجين الترحم عليه، أو شمت بوفاته ووضعه في قائمة أعدوها سلفا للمذنبين والخاسرين، وغالبا يكون هؤلاء إما ممن يدّعي العلم والمعرفة ويحمل شهادات كبيرة في مجال عمله، أو من العامة البسطاء ممن يردد ما تقوله الفئة الأولى دون وعي وتفكير، وفي كلاهما خطر كبير.

في الفقه الإسلامي يعدّ الولاء والبراء ركنا من أركان العقيدة، وشرطا من شروط الإيمان، ويُرى أنها جزء من معاني الشهادة، وتوجد لها شروحات مطولة في أحد أهم كتب العقيدة التي تُدرّس في الجامعات، ويحمل كثير من أستاذتها درجة الدكتوراه في مباحثها المختلفة، يُستَشهد فيها بأقوال ابن تيمة في فصل الولاء والبراء: «على المؤمن أن يعادي في الله ويوالي في الله»، وتقسم لثلاثة أوجه جميعها تعتمد على الكراهية لمن يختلف عن المسلمين في العقائد أو المذاهب أو التشريعات المحدثة، أو ارتكاب ما يعدونه مخالفا.

والكراهية في حد ذاتها لو كانت شعورا محضا لا يترتب عليه أي تصرف محسوس أو كلام يثير الأحقاد، لكان أهون من غيره، ولكن البراء والولاء يمتد في بعض تفسيراته إلى أن تصبح الكراهية فعلا وأذية ومضايقة، والشواهد في كثير من بطون الكتب والفتاوى المتداولة كثيرة.

ربما يكون هذا المكروه مسلما يختلف عنهم في الشكل الظاهر، ملبسا أو سلوكا ونمط حياة، أو يكون مسلما من مذهب شيعي، أو صوفيا وغيره، أو يكون غير مسلم يدين بدين آخر، أو لا يحمل دينا بالكلية، فجميعهم يجب أن يُبغَضوا ويُؤذَوا ولو كانوا مسالمين آمنين في حياتهم.

من تفرعات هذا المعتقد، قاعدة مهمة يستشهد بها من يُشرّع هذه البغضاء، وهي: «أن الرضا بالكفر كفر»، فمجرد إقرار أن لكل إنسان الحق فيما يعبد أو يؤمن أو يعمل مما يخالف ما يتفق عليه، هو كفر، بالتالي يستحق المقر له نزع الولاء عنه والبراءة منه بكراهيته وأذيته. لهذا يعد المسلم الشيعي كافرا، مشركا، ومرتدا، حسب كثير من المؤلفات التي تعد مرجعا للعقيدة والفتاوى المتداولة، فهو لا يستحق الترحم عليه إذا مات، ومصيره قد أعدوه له مسبقا في النار، ويجب المجاهرة بمعاداتهم وأذاهم وهم أحياء.

كما أن «الوطنية» تعد شكلا من وسائل إضعاف الولاء عند المسلم، حسبما يوجد في مصادرهم. لهذا لا نبالغ حينما نقول: إن مفهوم الولاء والبراء لدينا كان سببا كبيرا في الكراهية التي انتشرت بين المسلمين وبعضهم بعضا، باختلاف مذاهبهم، وبين المسلمين وغير المسلمين، وعليها يقوم الاقتتال والتحزب والتطرف الذي تذوقنا ناره بعمليات إرهابية ضد الوطن ومكوناته من الأفراد، وضد الآخرين المسالمين حول العالم، فقط لأنهم يختلفون عما يعتقده مؤدلجو التراث.

جُهْد المؤسسات التي تسعى منذ سنوات إلى محاربة الإرهاب، والحد من التطرف، ومعرفة أسبابه، ونشر الوعي بين الناس، أو التي أنشئت أخيرا، كمركز اعتدال، أو الحراك الواعي الذي شنّه كثير من أفراد المجتمع فضائيا عبر «تويتر» بعد الإساءة إلى الفقيد عبدالحسين عبدالرضا، وبيانات النائب العام عن استدعاء النيابة العامة لأي مشاركة تحمل مضامين ضارة بالمجتمع، مهما كانت مادتها وذرائعها، جميعها جهود لا تكفي، ما دامت المادة الخام المؤصلة لهذه الكراهية في الكتب التي تشرّع لها، والتي تُدرّس على مستوى الجامعات، لا يكفي مجابهتها وهي تغذي العامة المنقطعين عن الفضاءات العامة للجدل، وتشكل وعيهم ووعي من يقومون بتربيتهم وتعليمهم.

لقد آذتنا الكراهية كثيرا، وحتى نكافحها نحتاج إلى الصدق في اقتلاع جذورها قبل تشذيب الأغصان السامة التي تتفرع عنها، ولا تلبث إلا أن تعود إلى الظهور أكثر حقدا وشراسة.