تبدأ سورة آل عمران بأن الله واحد لا إله إلا هو، نزل الكتاب «نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ». وتمضي السورة في ثلثها الأول في محاجة مع أهل الكتاب، وتورد حقيقة أن كل رسالات الأنبياء هي إسلام: «إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ* فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ».

وتورد السورة حقيقة أخرى هي الدور المحوري للنبي إبراهيم عليه السلام «مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ».

والنبي إبراهيم عليه السلام هو الذي أذّن، بأمر الله تعالى، في الناس بالحج إلى مكة، تتابع السورة «قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ* فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّه غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ».

يقول أكثر المفسرين والفقهاء إن خطاب القرآن الكريم بـ«الناس» يشمل الناس كافة، وبهذا فإن نداء إبراهيم بالحج يشمل أتباعه وأتباع الأنبياء من بعده، موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام. بل إن الحج في القرآن لا يأتي إلا في سياق خطاب الناس جميعا.

سورة الحج، وهي مدنية، تبدأ بـ«يا أيها الناس اتقوا ربكم» وحين تذكر الحج فهي تقرنه بالناس «وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ*لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ* ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ». هذه الآيات موجهة للناس، وتوضح الغاية من الحج، وهي شهود المنافع، وذكر الله وشكره، والصدقات والوفاء بالنذور.

ومن البدهي أن «الناس» هنا تشمل المؤمنين الموحدين «حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ».

لكن كيف للمؤمنين الحنفاء من أتباع الديانات أن يؤدوا شعيرة واحدة في مكان واحد، يقول القرآن في سورة الحج «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ»، قد تختلف المناسك لكن المكان واحد والشعيرة واحدة والغاية واحدة والإله واحد. وتعيد سورة الحج المعنى مرة أخرى، وتضيف إليه حق إدارة الحج وهو حق خاص بسلطة النبي عليه السلام، فكلمة «الأمر» ترد في القرآن غالباً بمعنى السلطة والإدارة «لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ* وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ* اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ».

إن الاختلافات الدينية ظاهرة لا يخلو منها زمان ولا مكان، وكل فريق يرى أنه على صواب، وإذا كانوا يتجادلون فيها خارج الحج فإن الحج لا جدال فيه، أما الحكم والفصل في الاختلافات الدينية فالله أعلم به، وإليهم كلهم مرجعه فينبئهم بما كانوا فيه يختلفون.

أتخيل مكة البلد الحرام في الحج، كلها سلام في سلام، كلٌّ يشهد المنافع ويذكر الله ويوفي نذره ويقدم هديه وصدقاته، يعيشون مع بعضهم كل فترة الحج، «أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ».

إن الدعوة إلى إدخال الجدال السياسي في الحج، كما تريد إيران في مظاهرات البراءة، هي مخالفة صريحة لوصايا الله في كتابه.

كما أن الدعوة إلى تدويل إدارة الحج، كما تدعو إيران وقطر، هو مخالفة ومنازعة الأمر أهله، ولن نسمح به أبدا.

الحج موسم عبادة ومنافع وخير وسلام للجميع من كل فريق، المكان والزمان والبشر والطير.