ما زالت بلادنا بفضل الله تعالى تحتضن حجاج بيت الله الحرام الذين يحرصون على بدء نسكهم أو اختتامه بشد الرحل لزيارة المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ. ويحاول بعض المعاصرين بكل ما يملكون من جهد إفهامهم أن شد الرحل لا يجوز إلا لمساجد معينة، معتمدين في تحديدها على حديث: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى". وزاد بعضهم في محاولات المنع، حتى جعل ذلك الشد للرحل بمثابة السفر للمعاصي ـ حرام ـ. ومما يصلح للنقاش مع معاصرينا حول هذه المسألة، إيراد ما ذكره الإمام الفيروز أبادي، أحد مشاهير علماء القرن الثامن الهجري، الذين سمعوا من كثير من الأئمة المحققين أمثال؛ ابن القيم، والسبكي، وابن جماعة، وابن نباتة وغيرهم. حيث ذكر في كتابه (الصلات والبشر في الصلاة على خير البشر) ـ ص: 127ـ إن الحديث المتقدم "لا دلالة فيه على النهي عن الزيارة، بل هو حجة فيها، ومن جعله دليلا على حرمة الزيارة، فقد أعظم الجراءة على الله ورسوله.."، أي أن الحديث في جهة، والاستدلال بالمنع في جهة أخرى.

الحديث بليغ جدا، واستخدم فيه صلى الله عليه وسلم، أسلوب (الاستثناء) الذي يقتضي وجود (مستثنى) و(مستثنى منه)، ولما كان الحديث بلا (مستثنى منه)، وجب علينا تقديره، مع الانتباه إلى لزوم أن يكونان من نفس الجنس، أي (مسجد)، وهذا يسنده ما أخرجه الإمام أحمد بن حنبل، عنه عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "لا ينبغي للمصلي أن يشد رحاله إلى (مسجد) تبتغى فيه الصلاة غير المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي". وفي لفظ آخر: "لا ينبغي للمطي أن تشد رحاله إلى (مسجد) تبتغى فيه الصلاة غير المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا". وروى الإمام البزار حديث: "أنا خاتم الأنبياء ومسجدي خاتم مساجد الأنبياء. أحق المساجد أن يزار وتشد إليه الرواحل؛ المسجد الحرام ومسجدي. صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام". ومنه يتبين للجميع ـ فضل هذه المساجد الثلاثة، وأن ما عداها متساو في الفضل، ولا دخل لمنع ضيوف الرحمن أو تزهيدهم في زيارة النبي صلى الله عليه وسلم. فقد خرجوا من بلدانهم موحدين لربهم، معتقدين أن سيدنا "محمد صفوة الباري ورحمته"؛ عبدٌ لله، ومرسولٌ من عنده جل في علاه لهدايتهم، وتنوير قلوبهم وقوالبهم صلوات الله عليه.

قد يقول قائل إن الزيارة النبوية ليست لها علاقة بموسم الحج، وينبغي أن تكون طوال السنة، والجواب على ذلك، هو أن الحاج ـ وغيره ـ إذا جاءته فرصة ذهبية كهذه، يحسن به عدم تفويتها. وكلنا يقرأ قول الله ـ سبحانه وتعالى ـ: "ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما" ـ ونشاهد نفس الآية على جدار المواجهة الشريفة عند التشرف بزيارته صلى الله عليه وسلم. ترغيبا في حب الناس لحبيبهم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ الذي حبب نفسه إليهم، فبادله المحبون شوقا بشوق. ومن أجمل من وصف طريقة الزيارة؛ الشيخ ابن القيم رحمه الله الذي قال:

فإذا أتينا المسجد النبوي صلينا التحية أولاً ثنتان

بتمام أركان لها وخشوعه وحضور قلب فعل ذي الإحسان

ثم انثنينا للزيارة نقصد القبر الشريف ولو على الأجفان

فنقوم دون القبر وقفة خاضع متذلل في السر والإعلان..